حكاية صوت

قصة ” بداية ” .

في منتصف الستينات الميلاديه بمدينة الطائف ،  ذهبت فتاة لم تكمل عامها السادس عشر مع والدتها برفقة فتاة آخرى احبت الفن و احترفته  واشتهرت  باسم توحة في منطقة مكة و الاماكن المجاورة لها الى بيت احد اقارب الأخيرة ممن يحبون السمر والغناء ، في تلك الليله  مضت الصغيرة الى قدرها دون تخطيط مسبق ، وعبر صدفة ربما تكون انتظرتها طويلا تبدل كل شئ .

هناك سهرت تستمع الى الحانهم التي يرددون وحين استبد بها الطرب شاركتهم ، تغنت بعمل لام كلثوم و آخر للراحلة اسمهان ، كان لصوتها رنين خاص ، يظهر بوضوح في مقاطع غنائية معينه تجعل هذه النبرة تلمع و تسطع مفصحة عن صوت ذو امكانيات مختلفه ، هذا الاداء دفع توحة لتشجيعها بطريقة عملية حيث عرضت عليها اصطحابها في مساء الغد لمناسبة خاصة سوف تقام  بقصر الملك فيصل بالطائف وقد طلبوا منها ان تحييها .

استمع الاميرات والحضور لها في ذلك المساء ، تمايل الجمع على نغمات الفلكلور والاغاني الشهيره في تلك الفترة ، اعمال كانوا يعرفونها وسمعوها مرارا لكن بطريقة لا تشبه هذه الطريقة ، كانت تؤدي باسلوب لم يكن يختلف عن الآخرين ولا يتشابه معهم في الوقت ذاته ، كانت تملك روح جديده جعلت من العتيق جديدا ، اشادوا بصوتها وطالبوها بالمزيد فلم تبخل ، اعطتهم في ذلك اليوم حنجرتها التواقة للانطلاق منذ زمن .

 

نحو الاحتراف

كان لطفي زيني و طلال مداح قد اسسا في عام 1964 ميلاديه شركة ” رياض فون ” –  اغلقت تماما عام 1970 ميلاديه عند بداية دخول الكاسيت وانتشاره –  مع الامير خالد بن تركي الملقب بـ ” المنتظر ” وهو الاسم المستعار الذي يستخدمه حين ينشر اشعاره ، قامت الشركة بانتاج اول عمل خاص لها ، اسطوانة تحمل اغنية منفردة بعنوان ” فات الآوان ” كتب كلماتها الراحل لطفي زيني ولحنها الراحل طلال مداح.

بعد ذلك طلبت من جلالة الملك فيصل ان تغني هذا العمل بالتلفزيون الذي كان يبث بالابيض و الاسود فكان لها ذلك ، لتبدأ بعدها مرحلة مختلفة اكثر انتقائيه وجديه واجتهاد .

بدأت تقدم اعمالها الواحد تلو الآخر متبعة احساسها ورغبتها في الاضافة و التجديد ، فغنت الوطني والعاطفي والشعبي ، حرصت على تواجد اعلامي نوعي وان لم يكن مكثف ، كما ارادت ان يكون لها شكل فني غنائي خاص بها لذا توقفت في فترة لاحقة عن التواجد الاجتماعي عبر الغناء في الافراح والمناسبات الخاصة .

في نهاية الستينات وبداية حقبة السبعينات ولمزيد من التجديد فكرت بالغناء الكلاسيكي الذي تشعر انها تنتمي له ، وهو القصيدة المكتوبة باللغة الفصحي ، فكرت بانه قد يكون البداية لانطلاقها بشكل اكبر رغبة في انتشار عربي اضافة للانتشار المحلي الذي حققته .

انطلقت خليجيا فغنت في تلك الفترة ” الله ياقليبه ” للشاعر الكويتي فايق عبدالجليل ، كما غنت من الادب العربي قصيدة شهيره كتبها  ثاني ملوك الدولة الامويه يزيد بن معاويه وهي ” نالت على يدها ” ، كما سعت لمد الجسور بينها وبين رواد القصيده وكبار الملحنين في تلك الفتره فسافرت للقاهره ودول الخليج ، كما حرصت على لقاء كل قادم منهم الى ارض المملكة .

قصة ” وداع ”

صادف ان زار الشاعر احمد رامي المملكة لاداء فريضة الحج والتقى بها بمنزلها مع اسرتها و استمع لها ،  كانت تحب شعره وتحب الانسان في رامي ، فقد عرفته من قبل ان تلتقي به عبر ما قدمه من احاسيس ومشاعر تحولت لقصائد واغنيات صدح بها صوت كوكب الشرق ام كلثوم .

في يوم رحيلة من المملكة رغبت ان تودعه لكنه تحاشى ذلك متعللا برومانسية حمقاء تسيطر عليه ، ومن ثم ارسل لها قصيدة بعنوان ” وداع ” احبت كلماتها و تمنت بان يلحنها الاستاذ رياض السنباطي .

سعت لذلك بجديه وعبر شخصية سعوديه قامت بدور الوسيط بينهما تم تقديم النص للموسيقار الكبير كي يطلع عليه و يلحنه ، وافق ان يتعاقد معها على مضدد وبمقابل مادي تم تحديده سابقا ، حدث كل هذا دون ان يلتقي بها او يراها او يسمع صوتها .

بعد انتهاء التلحين وفي الاستديو حين ذهبت لتسجل استمع لها لاول مره فوقف صامتا لبرهة ومتأثرا ثم اوقف التسجيل واعاد المبلغ الذي استلمه لها كما  طلب اعطائه فرصة لتغيير اللحن فهو لم يدرك منذ البدء ان لديها امكانيات صوتيه جيده ولم يتصور ان يوجد بالمملكة العربية السعوديه اصوات قابلة للعطاء والاداء بشكل احترافي وصحيح يتناسب مع جمله اللحنية واسلوبه الفني الذي عرف به ، صدر هذا العمل في عام 1973 ميلاديه وتلاه اعمال اخرى لها مع السنباطي .

الاقتراب من الضوء

تعاملها مع الاسماء الشهيرة في التلحين خارج شبه الجزيره  لم يتوقف عند السنباطي فحسب فقد لحن لها محمد الموجي اغنية ” بعد الحبيب ” ، كما تعددت اعمالها مع مشاهيرالكلمة  ، فقدم لها الدكتور ابراهيم ناجي اغنية ” ساعة لقاء ” من الحان المغربي عبدالحميد ابراهيم – هو من قاد الفرقة المغربية لاداء موسيقى اطلس الشهيرة في تلك الفترة –  كما اعطاها فاروق شوشه قصيدة ” نار الشوق ”   اما الشاعر امين قطان فاعطاها قصيدة  ” عذاب السنين ” وكلتا القصيدتين لحنهما الموسيقار المصري احمد صدقي بالاضافة الى اعمال اخرى عديده كانت تنتقيها وتسعى لها او تاتيها طواعية وبحب عبر الآخرين.

استمرت في خطواتها المتأنية والمجتهده والجادة الى ان عاشت حلمها و وقفت لتغني في عام 1974 ميلاديه مع رموز الغناء الذين كانت تستمع لهم في طفولتها وتاثرت بهم ، حيث شاركتهم الاحتفال بذكرى انتصارات اكتوبر وسعدت بذلك ، خاصة وان  الاذاعة المصرية بثت بعدها بعض من اغنياتها لتتحقق رغبتها في ان يصل صوتها للمستمع في كافة انحاء العالم العربي .

التوهج

اضافة لموهبة الغناء كتبت الشعر ونشر في الصحف المحلية باسم ” صبا ” ، كما لحنت تحت مسمى ” ابو عماد ” .

من الاعمال التي لحنت وغنت اغنية ” النجوى الهامسه ” ، كتب كلماتها الشاعر طاهر زمخشري والذي تعده من اقرب الاشخاص لروحها بعد والدتها ، كانت تناديه بلقب ” بابا طاهر ” و لهذه الاغنية مكانة في نفسها ، فقد عاصرت كتابتها حرف حرف وحين تستمع لها تعود لذكرياتها معه فتشعر ان الاوقات كانت جميلة رغم مرارة المشاعر التي كان يسكبها في ابياته الشعريه وقسوة التجارب التي مر بها .

بابا طاهر هو من اطلق عليها لقب ” عاشقة الادب ” وقد احبت هذا اللقب كثيرا ، فيما اطلق الآخرين عليها القاب اخرى ارتبطت بالغناء و الفن فحسب .

الاحتراق

 كانت تحيطها الظلمة رغم توهج الاضواء، ظهرت صورها في المجلات والصحف لكن لم ترى اي صورة لها كونها كانت كفيفة البصر ، كانت والدتها هي العين التي تبصر بها والانسان الذي آمن بموهبتها ، ساعدتها على اكتشاف ذاتها لتتفوق على من سواها ، اخذتها لعتبات تتجاوز حدود الاعاقة او العجز ، ساعدتها لتنطلق بعيدا ورافقتها كظلها ، كانت تتنقل معها في كل سفرياتها وحفلاتها ، تركتها  تتعلم عزف العود على يد ” عبدالرحمن خوندنه ” الذي كان يضرب اصابعها بقوس الكمنجه للتعلم والاتقان الى ان تمكنت من العزف عليه بشكل سليم و صحيح ، شجعتها حين ابدت رغبتها في ان يكون مستقبلها الفني اكثر جدية ، ولم تجعل الاحلام التي تدور بمخيلة صغيرتها و تفكر بها عصية التحقيق او مستحيله .

برحيل هذه الام اضطربت حياتها ، اجبرت على اعتزال الفن من قبل ابيها في اوائل الثمانينات الميلاديه ، سائت حالتها النفسيه لا لرحيل امها فحسب لكن لحرمانها مما تحب ، اختفت عن الانظار ولم يسمع عنها اي اخبار ، ربما باتت اسيرة في عزلتها  لكن المؤكد ان اغنياتها بقيت وستظل حرة طليقة.

هذه الفتاة تبلغ من العمر اليوم ستون عاما و اسمها الحقيقي خيرية قربان عبدالهادي ، ولدت بالحجاز عام 1950 ميلاديه ويقول البعض عام 1951 ميلاديه ، لم تتزوج و ان ترددت اشاعات ضعيفة حول ذلك .

عرفها الناس باسم ابتسام لطفي وهو الاسم الذي اختاره لها الراحل طلال مداح حين شرعت في تسجيل اول اسطوانة لها  ، هي قد تكون حكاية صوت قد صدح ..ولم يزل يتردد رغم الصمت الجلي صوت صداه وبرنين مميز  .

على الهامش :

+ ارفق مع الموضوع ملف صوتي اعددته لمقاطع من اغانيها – قد لا تكون الافضل او الاجمل – للاستماع او الحفظ في الجهاز اضغط هنا .

+ كما اضيف ملف صوتي  للقاء اذاعي معها رفعه 1wmusic على اليوتوب مشكورا ، للاستماع له او حفظه اضغط هنا .

+ اعمالها  تبلغ 150 اغنية وحالها حال الكثير من الاسماء التي اثرت ايامنا واضافت لها ، تظل اعمالهم مشتته وضائعة فلا ارشيف يجمع ولا شركات او دور نشر تعيد الطبع ، تجربة ابداع  كاملة تطوى ويعلوها الغبار .

+ عن ابتسام لطفي في موقع الفيس بوك .

~ بواسطة يزيد في جويلية 19, 2011.

6 تعليقات to “حكاية صوت”

  1. أخي الحبيب ، لم تعد تدهشني اختياراتك ، فمن منّ عليه المولى بهذا الإحساس النبيل والإنسانينة الحقّة هو فقط من يققف على أحلام الآخرين وآلامهم .
    حبيبي .. لكلّ منّآ أحلامه وآلامه ، ومصيره الذي كتبه له ربنا الكريم ، نسأل الله أن يوفقنا في رحلتنا مع هذه الحياة ، وينير دروبنا بكل ما يرضيه عزّ وجلّ .

  2. ونعم بالله

  3. هل نجد في مكتبتك أغنية ياحبيبي آنستنا بصوت ابتسام؟

    مدونة ثرية, مازلتُ أبحر فيها وأندهش أكثر..

  4. لا اجزم بذلك .. ولكن قد اجدها يوما ما وافعل .. المدونة ثرية بكل سطر بها يضيف ويزيد من المعلومات ويوثق وقد فعلت بمجرد ذكرك لاسم هذه الاغنيه .. يسعدني ان تفعلي وكل المراسي والموانئ تتسع لك مرحبه .

  5. مدونة رائعة عن المطربة الرائعة إبتسام لطفي ,, أتمنى أن نرى صور عديدة للفنانة إبتسام و واضحة , لأني أعاني منذ أن عرفت إبتسام قلة و صغر و كذلك ضعف جودة صورها ,, 😦

  6. شكرا لك ، وبأذن الله ان وجدت ما يستحق الاضافة سافعل .
    اتفق معك بقلة المصادر وفقر التوثيق في احيان كثيره ، لكن وياتي الله بما لا تعلمون 🙂 اكرر شكري .

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

 
%d مدونون معجبون بهذه: