نمط العيش

عاد ظهرا من العمل ليجدها متكومة  على زاوية الاريكة  تاكل افطارها بصمت و شرود ، تبادلا التحية دون ان يتبادلا اي كلمة او يبديا اي صوت ، اختفي بغرفته قليلا ليعود ومعه جريدة يختفي خلف اوراقها لتقرأ هي الاخبار في الجزء البادي لها وتكمل التهام شطيرتها .
انتهت من آخر رشفة بقدح الشاي بالتوقيت ذاته الذي وضع به الصحيفة على الطاولة التي امامه .
كلاهما تأمل وجه الآخر للحظات ثم ابتسم لها فابتسمت ، واردفت قائلة :
– لو بالامكان ان اهرب من كل ما حولي واختبئ بمزرعة بعيدة عن نشرات الاخبار و الناس و فواتير السداد و ..
– انت تعيشين بمزرعة لو فكرت بذلك ، حديقة المنزل كبيرة جدا و البيت كبير جدا ، حتى شاشة التلفاز في صالة الجلوس حجمها اقرب الى شاشة السينما .
‫- بالضبط هذا ما اريد ان اهرب منه .‬
– حتى لو هربتي ستحملين كل ما حولك معك .‬
– لن افعل .‬
– بلى ستفعلين ، لانك في البدء من اتى بكل هذا واحاط به ذاته وان لم يكن يستعمل سوى ربعه .‬
– ……..‬
‫-‬ لا تضيقي بكلامي ولكن المزرعة ما هي الا مكان آخر ، انت من سيفرض عليه نمط العيش الذي تعيشينه ، او تتخيلينه وتودين تطبيقه .
‫-‬ ‫…….‬
‫-‬ لم الصمت !؟
‫-‬ لانك تراني و تحدثني دون ان تعي فعليا  ما الذي اعنيه ، ان ما يحيطك لم اضعه لاجل ذاتي فحسب ، بل لكم جميعا ، وايضا لمن يزورنا من الناس .
– الناس مرة اخرى ، هل تدرين اين العلة انك تعيشين اكثر من نمط حياة في وقت واحد ، وبداخلك يتزاحم اكثر من نهج تودين تطبيقه ، فانت لك نمط يتشابه مع تركيبتك وشخصيتك واحتياجك ، وهناك نمط اخر يجب ان يكون موجود لاجل الناس يتضمن ما يترك انطباع جيد وانبهار بسيط لحد ما بذوقك ولمساتك وثرائك ، تبحثين عن بعضك فيما يحيطك و تودين ان يرى الغير ذلك .
– انت تظلمني بهذا الحديث .
– صدقيني لا اقصد هذا ان حدث ، لكن انا مثلا ، اعود وانام عصرا او ليلا ، لا يختلف عندي السرير البتة ، حتى في العمل ، المكتب الذي وضعوه لي لا يفرق معي ان كان من خشب الورد او الزان ، كل ما يهمني ان انجز ما هو مطلوب مني ، ان لا جعل في خاطرك انت وابنائي اي شئ ، انا احقق لكم بعض ما تريدونه ويحزنني كثيرا ان اغلب ما تريدونه لا يضيف لكم بقدر ما هو يسلبكم و يقلل من مالكم ، ان النقود التي اكسبها هي ارثكم القادم وانتم ببساطة وبشكل دوري منظم تحبون اهداره في سيارة جديده ، رحلات صيفيه و اخرى في منتصف السنة ، مناسبات اجتماعية تستدعي وجود ازياء موقعة  باسماء مصممين عالميين  لا يعرفونكم ولا يعني لهم من انتم او ما المنطقة التي اتيتم منها ، كل ما يهمهم الاوراق المالية فحسب ، كل يفكر بمصلحته و يبحث عما يناسبه حقا ويريده الا انتم  ، تبحثون عما يبهر الناس فحسب او يبدد الوحدة و الملل والضجر .
– كل هذا الكلام موجه لي لاجل ان قلت اني اتمنى الهروب لمزرعه !!؟
– لا ولكن فعلا اشعر باني متعب ولا احد يشعر بي ، ولا احب ان اشعر احد في الاصل ، لكن احيانا الاعتماد على احساس الآخر و تقديره ليس الامر الامثل في كل الحالات .
–  معك حق ، فالآخر دائما لا يرى الآخر ، كل ما يراه ذاته و ما يحيطها فحسب من امور وهموم و مشاكل .
– ماذا تعنين !؟
– انظر لي الآن  و لثيابي اليومية التي ارتديها و لطعامي و طريقة عيشي ، هذه انا بكل وضوح ، منامة من القطن و قطعة من الخبز و تمرة و قهوة فحسب ، ما دون ذلك هو لاجل ان اكون مشرفة لك و لابنائك ولاهلك و لهذا المجتمع الذي ينتشلني من ذاتي ويسرقك مني ويسرقني من ابنائي ، ابعد كل هذا اكون انا السبب و متخبطة في نمط العيش ، هل اعيش في هذا القصر الكبير وحدي ، الا يوجد اي شئ هنا يحمل نمط عيش شخص اخر سواي ، هل الشاشات الكثيرة ، المتراصة بقرب بعضها البعض لمراقبة الاسهم او نشرات الاخبار في غرفة الجلوس ، بكل اضوائها المشعة و صورها المتحركة و الشريط الممتد دائما لا اسفل الشاشة فحسب بل  لحياتي كافعى تسممها و تأخذك مني وانت معي  ، هل وضعت لأجلي ام لاحد سواي ، بركة السباحة في الخارج هل حفرت لي وانا لا اجيد السباحة ، و الاخرى التي في الداخل بنيتها لي ام لابنتك التي لا تريد ضوء الشمس ان يغير من لون بشرتها ، هل انا من تجاوب مع رغبتها ام احد سواي ، و الغرف الممتدة في الفناء الخارجي او فوق الاسطح هل هي لي ام لهؤلاء الخدم القادمون من اماكن بعيده ، والفواتير التي اراجعها قبل ان يتم تسديدها رغبة في عدم اهدار اي مبلغ  في غير مكانه ، هل هي طلباتي وحدي ام انها مصاريف جميع من يسكن هنا !؟
– تدركين جيدا اني لا احب هذه النبرة ولا احب الانفعالات ، كل هذا لاجل اني تحدثت بقناعة لدي وفكرة تكونت داخلي على مر سنوات  .
– انها فكرة ليست صحيحه ، وانا لست كما تتخيل او تحاول رسمي .
– ما غدائنا اليوم ؟
– لحظة اسأل لك .
– اذن لا تعرفين ، لم تحددي له ماذا يعد وباي قدر ، تتركين زمام الامور للآخرين حتى وان ابديت بعض اللطف في مسك امور اخرى .
– هذا طبيعي !!
– اذن هناك ومهما حافظنا شئ مهدور وفي غير مكانه ويتمتع به الآخرين .
– انها انفس تغربت و بشر اعيتهم الحاجه ، ما الضرر في ارز يعد بلا زيت او ملح ، ما الضرر في انهم يطهون ما يجدونه مناسب ، هل يضايقك الطعام ؟ هل يوجد ما لا يعجبك ؟
– تعدد الاصناف ، التبذير ، شراء ابنائك للاطعمة بشكل دائم من خارج المنزل او تناولهم وجباتهم الاساسية مع زملائهم ، انه بيت يتمتع ويعيش به الخدم اكثر منا ، اننا نلتقي لاوقات قصيره وفي الاغلب مصادفه يتبعها جلوس على مضد لا يتجاو الربع ساعة .
– انا اجلس مع ابنائي تحدث عن نفسك ، ولا بد ان تراعي بان بعضهم بات يعمل ، او له مواعيد جامعية لا تلتقي مع اوقاتنا ، ما بك اليوم !؟
– لا شئ .
– هل اطلب ان يعدون لك الغداء ؟
– لا من الافضل ان تنتظريني غدا لدقائق كي نفطر معا .
– هل تسخر مني !؟
– ما فكرة ان اتغدى وحدي امام نشرة الاخبار وبرفقة التلفاز !؟ هل تعتقدي ان نمط العيش هذا يناسبني حقا، انا القادم من مكتب غارق في المادية كل يوم !؟ هل تريدين اقناعي اني اخترت هذه الطريقة ام انها فرضت علي !؟
– حسنا ، لن افطر بالغد ، لنتغدى معا .
– ليست الفكرة الغد او الغداء او بعد غد ، المشكلة في هذا النمط الذي نعيشه مزعج ولم اعد اتحمله .
– انا كذلك منزعجه و لكن لا استطيع ان افطر ارز و لحم ولا املك مثلك القدرة على تعديل اشياء كثيرة فرضت علي .
– هل نمط العيش الذي نعيشه حقا فرض علينا ام اننا مهدنا له بشكل او بآخر ؟
– اشعر ان الشطيرة التي اكلت عادت الى اول حلقي من فرط الكلام ، هذا الحديث للاسف اشعرني ببعض الاجهاد رغم اني لم اتحرك و منحني شعور لا احبه .
‫‬
سمع صوت تنبيه في هاتفه الجوال ، رفعه ليقرأ الرسالة التي وصلت له ، ثم التفت صوبها قائلا : ” الامير نايف .. مات ” .‬
انزلت رأسها تأثرا ، عم الصمت المكان ، بقيا في الغرفه و ذهنهم شارد ، مر الوقت بهم دون ان يتبادلا اي كلمة او يبديا اي صوت .‬

على الهامش :
+ اللوحة اعلاة للرسام مارك شيغال .

~ بواسطة يزيد في جوان 16, 2012.

6 تعليقات to “نمط العيش”

  1. مقال رائع والنهايه محزنه الله يرحمه ويغفر له يارب

  2. كـ أحجية هي يا يزيد ..!!
    نألف بعض ملامحنا في نمط عيشنا .. ونستنكر الكثير ..!!
    ،
    ،
    في ظل دعاء ..
    مُصابكم مُصابنا يا أهل الحرمين الشريفين ..
    رحم الله الأمير نايف وجعله مثواه الفردوس الأعلى ..

  3. لقد كانا محظوظين فتوقيت الخبر مناسباً جداً بالنسبة لهما .. خصوصاً بعد هذا النوع من الحوارات الأسرية التي أعتقد أنها العقد الاولى في نسيج التفكك الأسري، ولا أقصد هنا تفكك محسوس مرئي كطلاق وغيره، بل ذاك التفكك الذي نشعر به بالرغم من عيشنا في مكان واحد .. تعبير بليغ يا يزيد الجميل فيه انه مستمد من واقعنا وهذا جعلني أعيشه و أتفاعل معه.. أشكرك 🙂

  4. ام مشعل … وابل … امامة .. شكرا لسطوركم .

  5. واقع مؤسف للغاية الله يستر من الاجيال القادمة لغة الحوار ستنتهي lol و الاتكال على الغير متفشي في اصفر الامور 😦

  6. رنا 🙂

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

 
%d مدونون معجبون بهذه: