المتبقي ورقة ..
هذه الأبيات الشعرية التي لم يسجل أسم قائلها على الورقة ، لم تصل لي عبر صاحبها بشكل مباشر أو في حياته ، لم يختارها مدرس بالأدب أو متذوق للشعر ، بل قلب ملئ بالخير و الحب و الأيمان ، يملكه أنسان أحترف ليحيا حياته التكيف و التناسى !
أمضي رحلة حياته متسلحا بأبتسامة و بعد رحيله وجدت هذه الورقة معلقة فوق الجدار المتكئ عليه ظهر سريره بشريط لاصق ، في غرفة مساحتها صغيره و كان يقطنها وحده في مواسم باردة كهذه ، دون رفيق يحكي معه آخر النهار تفاصيل يوميه أو يشاركه همومه الصغيره .
هو متزوج و له ابناء يحبهم و يحبونه و أسرة تسكن بعيدا عنه على مرمى بحر ، فالغربة أستدعته ليعيل و يربي و يكبر و يعلم أرواح كانت تتغير ملامحها و طباعها و تنمو في معزل عن عينيه و بعيدا عنه .
أتى الى هنا في بداية التسعينات ، سائقا لأسرة لم تتكون بعد ، فقط زوج و زوجه و منزل كبير يفوق شقته التي كان يقطن في بلاده بمراحل ، كان يكبرهما بالعمر فشعر أنهم أبناءه ، عاش معهم لسنين يرقب توافد الابناء طفلا بعد الآخر و يسمع كافة الأخبار بدء من نجاح بالدراسة إلى ترقية بالعمل إلى وفاة انسان عزيز .
بقي عمر كامل إلى ان أقتربت وفاته بعد تشخيص طبي أفاد بأن حالته غير قابلة للعلاج ، لذا اقترحت عليه أسرته البديله أن يمضي الأيام المتبقية في أجازة يمضيها مع أسرته الحقيقيه هناك ليراهم و يرونه و يدفن ببلاده .
كان أغلب من يحيطه هنا أو هناك يعلم أنها النهاية عدا هو ، الذي كان رغم ارهاقه يحاول أن يغالب المرض و يخفف عن زوراه عناء زيارتهم له بكلمة لطيفه تدفعهم للأبتسام ، فهو كان يحب الوجوه المبتسمه و يتقن أخفاء الأحزان.
نظرا لطبيعته الودوده و المرحة أفتقده الكثيرين في أجازته التي يمضيها و أفتقدوه أكثر بعد سفره من هذه الحياة تماما .
حين دخلوا لحجرته لجمع ما تبقى و ارساله وجدوا الجدران بيضاء كقلبه و لا يعلوها سوى هذه الورقة التي حملتها يد والدتي و طالعتها بتأثر و قررت الأحتفاظ بها ، قرأت الحكم النائمة في ابياتها الشعريه لنا و عندها طلب من حولها نسخة من هذه الورقة التي طُبعت أكثر من مرة و لأكثر من شخص .
لا نعرف كيف وصلت له و لكن نعلم بأن ما كتب بها حقيقي و واقعي و يدعوا النفس الى الهدوء و السكينه ، فكل ما في هذا الكون وضع بحساب و نظام و توقيت و لاشئ هنا يأتي أو يمضي عبثا .
حين بات لي نسخة من هذه الورقة ألصقتها بالقرب من سريري ، أحيانا تسقط عيناي عليها صدفه فأقرأ الأبيات من جديد و أحيانا أكثر أتجاوزها متناسيا وجودها .
اليوم تحدثت مع روح صديقة تكلمنا عن الموت و حب الحياة و الجزع الذي نحيا تحت و طأته و تفاصيل عديده دفعتي لاخبارها عن الورقة و قرأة الأبيات التي بها لكونها تترجم بعض أحاسيسها و بعض ما قالته لي .
بعد حديثنا قمت بتصوير الورقة و أرسلتها لها عبر الهاتف ، في تلك اللحظة فكرت بهذه الورقة و الرحلة التي عاشتها متنقلة بما تحتويه من انسان لآخر ، لتستقبلها كل روح بطريقتها و تتعامل معها بأسلوبها ، فهناك من يعلقها على جداره و من يقرأها ثم يعطيها لجاره و من يتجاوزها و يعبرها راكضا للدنيا التي تشغله بكل ما فيها .
انتابني احساس و رغبه عميقه برد بعض الدين لتلك الروح التي أمضت من عمرها سنين معنا ، تنظف سيارات نركبها ، تلامس تلك الجمادات بيد مشتاقه لملامسة أحد ابنائها و ضمه ، قلب أحتل الحنين أغلب زواياه و أستبد به الشوق ، فقدره أن يحيا عمره بعيدا عمن يحبهم و ذلك لأجلهم !
لذا أحببت أن اضيف هذه السطور و الصورة هنا لعلها تكون صدقة جاريه عنه و عني لا سيما و أن الموت حي يرزق و الروح الطيبة التي حادثت سوف تسبقني و تفعل ذلك !
تنويه :
يسعدني و بكل رضا نشر هذه الصورة حتى و أن لم يشار إلى المصدر ، يسعدني فعل هذا و سوف أتلقاه بصدر رحب ، فما يعنيني حقا هو إنتشارها فحسب !