ادراك
أمضيت اليوم بعض الوقت في مطالعة موضوع بعنوان ” مستويات الأدراك ” لدى الانسان ، و هي نوعان ، ادراك خارجي لما حوله ، يتم عن طريق الحواس الخمس و هو مرتبط بالأعصاب و المخ ، ثم ادراك داخلي و هو ربما أكثر تعقيدا لكونه مرتبط بالتفكير و التذكر و الذاكرة و يهتم بمعالجة المعلومات و به تتم العمليات النفسيه المعقده ، كأن نتذكر عبر الرائحة شخص ما أو نربطه بمطرب معين و ربما نستدعي صورة مكان معين عند سماع لحن ما أو ما شابه .
هذا المكان أو الوحدة المركزيه المرتبطه بالذاكرة لا أحد يدري حقا أين تقع أو توجد في جسم الأنسان ، فعلميا هناك أفتراضات و ليس حقائق حتى الآن ، علما أن المجلة الكائنة بين يدي تعود إلى ما يقارب ٢٤ عاما مضت .
بعد الانتهاء أتصلت بطبيبة صديقه لأسألها عن هذا الموضوع تحديدا ، اخبرتني ان هذا الكلام صحيح و إلى اليوم علمياً لا أحد يملك حقائق جازمه حول موضوع الذاكرة و مركز وحدة المعالجه هذه داخل الانسان ، فالشم مرتبط بالأنف و النظر بالعين و الأمور واضحه هنا أما في موضوع التفكير و ارتباط الماضي بالحاضر و الأستحضار الارادي أو اللا ارادي للوجوه و الأشخاص و الجُمل و الكلمات و الذكريات كافة فهو أمر مختلف و ليس بهذا الوضوح .
حدثتها بأن هناك آية من سورة الحج كانت في الموضوع و قرأتها من ضمن ما قرأت و أثرت بي للغايه و استوقفتني حيث تقول :
” أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور ” . ٤٦ .
و تلقائيا تذكرت حديث الرسول عليه افضل الصلاة و التسليم ” إستفتِ قلبك ” ، حيث ذُكر في شرح الحديث بأن القلب هنا قلب المؤمن ، المدرك لطبيعة الدين الذي يتبعه و نزعه للفطره ، لا القلوب التي عُميت أو تعبت فهي تارة تستدرجنا إلى الأهواء و تارة نحن من يستدرجها !
استوقفني هذا القلب الذي يسكننا و لا يهدأ ، فهو قد يتجنب ما يضره أو يتمسك به . يصر بأن أحساسه و توقعاته في الشخص الذي أمامه صحيحه و إن نفت بعض السلوكيات التي بدت منه ذلك ، يؤمن بأنه أفضل أو يظن بأنه ليس كذلك و يصارع ذاته في عاصفة من الظنون و الأحتمالات .
إنه يشبهنا .. يتخبط أحيانا فنضيع معه و به .. و لا ندرك حينها شيئا و إن حاولنا ذلك !
الموضوع ايضا تحدث عن الفرق الكائن بين التفكير و التفكر ، فالمجتمعات الماديه نزاعة الى التفكير لكنها تتجنب التفكر و تحاول أن تجرد الانسان منه إلا في نطاق الاسترخاء العارض كاليوجا و ما شابه و تأخذه في طريق غير مرتبطه بالملكوت الالهي و ما يدعو له ، حيث دُعي الأنسان في أكثر من موقع ” افلا يتدبرون .. افلا يتفكرون ” ، دعوة واضحة لتأمل هذا الكون الذي يحيا به و تأمل ذاته أولا.
إن التفكر هو درجه أعلى من التفكير ، فالأخير هو عمليه معقده تربط بين وظائف كثيره مثل الادراك و الذاكرة و العاطفة ، لنجد أن التفكير يجري عملية تفريق ما بين المدركات المتباينه ثم يقوم بجمع ما هو متشابه و ربط الأشياء ببعضها البعض و معرفة أهدافها و مضارها و منافعها للوصول إلى نتائج واضحه بالنسبه له ، فالشمس تشرق و يستفيد من ضوئها النبات و نعمل في الضوء الخ .
أما التفكر فيعنى بالمعنى الأعمق للمدركات ، يربطها بما هو أبعد و أشمل ، فالشمس خلقها الله ، وضع لنا بها منافع ، ليدخل هنا إلى منطقة لماذا خلقت ؟ و لماذا أعيش ؟ و إلى أين أنتهي ؟ ما هي رسالتي و غايتي في هذه الرحلة ؟
يضع الحياة الحاضرة بكل متعها التي تخدر البشر و تفتنهم في حجمها الحقيقي ، فهي حياة مؤقته ، ليست نعيم حقيقي بل اختبار .
هي بكل ما تحويه من جمال و إتقان هينة عند الله بكل ما بها و فيها، لذا اعطيت لفرعون و لقارون ، فليس من الضروري أن النعيم يأتي كجزاء للمؤمن ، و ليس بالضرورة كل مؤمن مبتلى ، فهناك سيدنا سليمان الذي سخر له الطير و الريح و الجن و الحياة بما فيها ، و اليوم الكثير من الشخصيات التي حولنا و تعيش معنا سُخر لها الكثير الذي نشعر بأنها قد لا تستحقه لكوننا نعرف قيمتها الفكريه و الأخلاقيه و مدى اهدارها لتلك النعم ، لا شئ كما يبدو دائما و هنا الشئ المخيف في هذه الحياة ، فكل ما يحدث امتحان ما و اختبار يتجدد في كل ثانيه و كل يوم .
إذن التفكر عمليه عقليه قلبيه إيمانيه واعيه ، و بعض العلماء أقر أنها مستوى ادراك ثالث أعمق و أبعد ، لكنها كفكرة رفضت بعلم النفس عامة و الغربي بشكل خاص ، رغم أن وجودها ضروره و مخرج للأنسان و وسيلة تحفظه و تحفظ له اتزانه في عالم يختل بمرور الأعوام .
إن الأرتباط بقوى الهية أعلى يقيك الخوف من المجهول ، يجنبك الدوار في اللامعنى ، فلكل شئ يحدث سبب و مغزى ، إن التفكر كممارسة يساعد على اتساع الادراك و هذا سوف يصاحبه تلقائيا و مع الوقت مستوى عال من الصحة النفسيه إن مورس بذهن حاضر لا عاطفة متشائمه و نفس ضعيفه يسكنها خوف و قلب متعلق بالدنيا و ما فيها .
حين أنتهيت و ضعت المجلة جانبا و جلست اتامل حياتي في الفترة الأخيرة ، لقد زارها الموت مليا ككل بيت ، و الأمراض لم تترك بابا لم تطرقه ككل الناس ، و ها هي أرواح تقطف اليوم في حرب بدأت و لا نعلم متى سوف تنتهي لأجل الحفاظ على و طن نريده أن يظل و يعيش و أنا ما زلت منشغلا بحروبي الداخليه مع نفسي و أفكاري و مخاوفي و أحاسيسي التي أثيرها و تعبث بي !
شعرت لوهله بأني كنت مخطئا حين كنت اتصور بأني ادرك اشياء عديده ، لقد بدأت ادرك حقيقة أني لا ادرك اشياء عديده أولها نفسي !
صحيح إني استنشق و أرى و أسمع ككل الناس ، و عبر الناس أعرف الكثير و ربما التلفاز بكل ما يحويه من قنوات اخباريه و لكن هل ادرك حقا .. هل أعي .. صدقا لا أعرف !
على الهامش :
+ المجلة هي ” النفس المطمئنه ” العدد ٢٨ اكتوبر ١٩٩١ ميلاديه ، صادره عن الجمعية العالميه الاسلاميه للصحة النفسيه . وهي دوريه تصدر كل ثلاثة شهور ، و لا اعلم ان كانت تصدر حتى اليوم .
+ كتب الموضوع الذي قرأته د . محمد المهدي / اخصائي الطب النفسي . السعوديه .