الأمر يتجاوز صورة

10jun2016ffda

منذ طفولتي كنت أحب الصور ، فهي تمنحني خيالات ، قصص ، تحرك داخلي احاسيس ، تؤثر بي و كأنها قصيدة شعر، تضيف لي عند مشاهدتها أو الحديث عنها معلومات ، فأشعر أني قرأت صفحات من كتاب ، و عبر ورقة لا يوجد بها سطر واحد !
التعابير فوق الوجوه ، طبيعة الحركة ، الأزدحام ، و كل علامات الأستفهام التي تتوالد في رأسي مع أجابات متخيلة ، سلوك كنت أقوم به منذ عمر مبكر و بات طبع بي .

10jun2016ffdb

لذا أحببت القصص المصورة ، اغلفة الأسطوانات ، علب الشرائط ، أفيشات الأفلام ، فكل ذلك الأبتكار في التكوين المرئي كان يجذبني ، و كل ذلك الرصد الصادق لمحطات زمنية و حياة يومية كان يدهشني .
كنت أشعر دائماً بأن المصور انسان يمنح البشر ذكريات كثيرة ، يحفظ لهم “شبابهم” في صورة ، يخلد جمالهم و إن رحلوا ، فتبقى ملامحهم و إن مضى الجسد ، لكنه شخص منسي ، و التراث الذي لديه سينسى مثله ، يضيع في دروج مغلقة ، يتلف في علب بلاستيكيه ، يمضي كوجوه عبرت أمام عدسته ذات يوم و أختفت .
ربما لأن ثقافة “الكتب المصورة” بالمكتبات العربية أمر لم يزل يمارس على استحياء ، و يشكل تجارب فردية غير منتشرة ، و إن حدث و تم تنفيذها بشكل جيد و تكلفة عالية يصبح الأقبال عليها قليل لأرتفاع اسعارها ، أو لأن المتلقي احيانا يشعر بأن مشاهدتها لمرة واحدة أمر كافي ، علماً أنه عند اقتنائها سيساهم في عملية حفظ التراث و أستمرار تداوله بين الناس .

10jun2016ffdc

إن الصورة في حد ذاتها ورقة ، لكن الأحساس المتبدل ما بين عمر و آخر هو ما يضيف لها و يمنحها السحر ، ذلك الحنين الممتد من الأعماق صوبها ، ذلك الاستيعاب الشجي لكل التفاصيل و الاستغراق في تأملها ، هو ما يجعلها قادرة على التأثير بنا في زمن آخر .
هذه الصور في تراكمها قد تتجاوز الوجوه و ذكرياتنا الخاصة لتغطي في مجموعها أوطان ، تحدثنا عن البدايات و حركة العمران ، تصور طرق العيش ، ثقافة الأنسان ، توثق لذلك الشئ أو لهذا المكان ، و في بعض الاحيان تصل لمستوى أبعد و تحفظ فترة زمنية كاملة بين دفتي كتاب .

10jun2016ffdbeew

في الحياة عرفت أشخاص لم يحبوا الوقوف أمام الكاميرا ، لا يؤمنون بالتصوير ، غير راضين عن أشكالهم في الصور ، و يجدون في اللقطة الواحدة عيوب كثيرة .
بعد مرور عمر بت اراهم يبحثون عن أي صورة لهم حتى و إن لم تكن جميلة ، يفرحون بها حين يجدونها بالصدفة في هذا الألبوم أو ذاك ، يمسكونها لبرهة ، يستعيدون في الصمت “بعضهم” الذي مضى ، و ذكريات “أيام” قد اشتاقوا لها ، و لا يصدقون انهم كانوا فعلاً بها و عاشوها ، وحده المصور المنسي و عبر الظلال التي طبعها على الورق يؤكد لهم بأنهم ” كانوا ” و بأن ما كان ” كان ” .

10jun2016ffdddd

لا أتذكر تحديداً في أي مرحلة من الطفولة بدأت أحب الصور ، لكن ما أتذكره تماما أني قد اشتري لعبة ما او حلوى مغلفة بسبب صورة خارجيه ، حتى في السينما و اثناء السفر ، و قبل معرفتي باسماء الممثلين و ادراكي لكافة التفاصيل كنت أفضل فيلم عن آخر بسبب صورة ، و يتكرر الأمر ذاته حين كنت أقوم باستئجار شريط فيديو في اجازات نهاية الأسبوع في فترة مراهقتي .
ايضاً لا اذكر تحديداً متى بت أحرص على الأحتفاظ بعلب الأفلام و كأنها جزء من الفيلم ، و من ثم بت لا أرمي المجلات القديمة ، ثم في مرحلة لاحقة بت أبحث عنها و أقتنيها ، أصبحت اشتري الخرائط القديمة للمدن لأجل صور تزينها و تحفظ وجه العواصم في ذلك الزمن ، اجمع الكتب الغنية بالصور ، بدء من صور المشاهير و النجوم الذين احببتهم ، إلى تلك الفترات التي سبقت ولادتي أو التي عشتها ، كتب تتوجها صور قديمة للوطن العربي بشكل عام و بلادي بشكل خاص ، و كنت  في هذه الكتب أغادر واقعي لواقع آخر و أجدني !

10jun2016ffdddfff

بمرور الوقت تراكم لدي جانب معرفي ، فأصبحت قادر على معرفة اسماء بعض المصورين و معرفة صورهم و إن لم تكتب اسمائهم ، نظراً للخلفية المستخدمه و تكرارها ، او ربما من طريقة وقوف المصور و تكراره للزاوية التي يختارها ، أو احساسي بتكراره للتعليمات التي قد يعطيها هذا الفنان او ذاك ،  أحياناً قد يوشي بنفسه عبر “الأفتعال” ، أو عبر اللمسات التي ينهي بها صورته و يقدمها لنا ، يمنحك ما يجعلك تعرفه حتى و إن كان من في الصورة من غير المشاهير ، و قد كنت أحب بعض الصور التي لا يوجد بها مشاهير و يظهر بها احساس المصور بالاشياء بشكل اكبر ، من خلالها اجده يعبر عن احساسه أكثر ، و يمارس اسلوبه و تكنيكه بحرية و دونما ضغوط .

قبل أيام سهرت مع حلقة ” المصوارتيه ” التي قدمتها اسعاد يونس من ضمن برنامج ” صاحبة السعادة ” ، و أثرت بي و سعدت بها جداً جداً ، لكني شعرت بأن حلقة واحدة لا تكفي ، فهناك تفاصيل كثيرة قد تحكى أو تروى .
كان بها المصورين حاضرين ليحكوا و يوثقوا تجربتهم ، بعضهم قد حضر أبنائه بسبب رحيله ، انتهت الحلقة و لم اشعر بأني أكتفيت ، جلست أفكر بهم ، بالتراث الذي لديهم ، و لم لا يتم اضافته – و هذا اضعف الايمان – على “سيرفر ما” في الانترنت خوفاً عليه ، و لا أدري لم فكرت بالرسامين ، مثل الراحل “يوسف فرانسيس” و تمنيت حلقة عنه ، فأعماله قد زينت كتب عديده و مجلات ، كما انه اخرج سينمائيا و له كتب و مؤلفات .

10jun2016ffdddee

ما زلت اذكر حضوره  القوي رغم عدم ظهوره شخصياً في فيلم ” على ورق سولفان ” ، و أذكر آخرين مثل ” عبدالعال ” الذي زينت ريشته أغلفة كتب عديدة ، و جمال قطب ، حلمي التوني ، محي الدين اللباد ، مصطفى حسين و اسماء اخرى عديدة .
إن هؤلاء المجهولين هم اسماء منسية ،  أرواح عبرت ، و من خلال عيونهم عبرت أرواح كثيره و بقيت حاضرة أمام عيوننا ، لكونهم “بمهارة أيديهم” سجلوا تفاصيل ذلك الزمن ، حفظوا تلك الوجوه برسمة أو صورة ، و حان  الوقت الذي نسجل به اسمائهم ، و على اعمالهم التي قد نعرفها دون أن نعرفهم !

 

10jun2016ffdaooo

شكراً بعمق الصدق للفنانة بل للأنسانة اسعاد ، التي استطاعت أن تُسعد ببرنامج قد يبدو “بسيط” أناس عده ، و أسجل أعجابي ايضا بعدم انزلاق “العمل ككل” بكافة الأجواء الخانقة ، و الموجودة في البرامج الحوارية الاخرى ، مثل الموسيقي  المتوترة ، أو المنسية في الخلف طوال حلقة ، و تحاشي احراج الضيف أو عدم احترامه ، ليس احتراما لقيمة البرنامج و للمشاهدين فحسب ، بل لأنها تنتمي لمدرسة قديمة ، تدرك ما معنى اكرام “الضيف” ، مدرسة  لها “أصول” ، أولها الاهتمام بالمادة المذاعة ، و عدم الغرق  في اثبات الوجود أو الذات ، مدرسة تدرك أن الوقت مهم ، و “المذيع” بها ليس اداة ، بل هو روح المشاهد ، فمن خلاله نسأل و نستكشف ، و هنا تفوقت اسعاد على نفسها ، بل باتت علامة ” مهمة ” في الساحة التلفزيونية المزدحمة ، و تكمن اهميتها في قدرتها أن تصل بذكاء لما بداخل الجمهور الغارق بالحنين و تعطيه ما يريده و يرغب به من هذا الضيف أو ذاك الموضوع ، معها الحديث حميم ، أقرب للجلوس في صالة منزل ، هدوء في الخلفية ، اصوات الاشخاص فحسب ، و ربما تأتي موسيقي مع صورة عابرة و تعليق قد يستدعي التأمل ، و يذكرنا بأيام كنا بها نمارس انسانيتنا بشكل أفضل ، قد نسمع أغنية نحفظها على مسرح البرنامج ، نشاهد فاصل أقرب ” للتقرير” يدعم مادة الحلقة و يضيف لها ، لكن لن تشاهد الكبار يتشاجرون بلا نضج لأجل رأي ، تخرج من البرنامج بمعلومة ما ، براحة ما ، تشعر بأنك لم تخسر وقتك ، و بأنك قضيت ” سهرة لطيفه ” مع شخصيات متعددة و وسعت دائرة معارفك و انت لم تغادر مكانك في بيتك.

شكرا على هذه الحلقة التي أعدها احتفائية بالأرواح التي قدمت لنا الكثير و عاشت عمرها كله خلف الكاميرا ، شكرا لكل فريق العمل ، و شكرا عمرو اسماعيل على هذه الموسيقى التي استطاعت أن تسكن وجداننا و تشعرنا بأننا سنحن لهذا البرنامج في يوم ما ، و لأيام مشاهدته في وقت ما ، شكرا لكل من “صور” لنا أيامنا ، و حاول في لقطة عابرة أن يحفظ لنا أرث و ذكريات و سنين .

~ بواسطة يزيد في جانفي 10, 2016.

6 تعليقات to “الأمر يتجاوز صورة”

  1. بستان من الذكريات , فعلاً .. الأمر يتجاوز صورة
    تصدق بإن المفرش بأول صورتين أثر بي للغاية .. و فوق الإحتمال.
    تصدق .. فقط مفرش أو غطاء , لا تهم التسمية المهم ما تشعله تلك ” الأشياء ” بمنطقة الذكريات لتنتقل شراراتها عبر الأعصاب حارقه كل شعره حتى وصلها إلى القلب لتفجر أحاسيس مكبوته و مشاعر مهترئه كشبكة عنكبوت على جدرانه تزيد الألم ألم , ألم .. يقتاده الجسد كمسكن لشرطات و خربشات الزمن على أجسادنا.

    الووكمان , البلجون ,فيديو 2000 و الكواكب و الموعد و الشبكة , جويستيك الأتاري , القطه إليزابيث , و حتى شاهيناز ” كمان كمان ” وليدة الأمس القريب .. باتت ذكرى.

    كاميرا البولورايد , العلبة المدرسية ..
    … Killing Me Softly.

    علبة المناديل .. لو تحدثت لفاقت ألف ليله و ليله مما شاهدت و عاصرت و سمعت و .. ساهمت فى بعض الأحيان.

    لا أزيد , بدأت مع إلياس و أنتهيت مع ” ….ياتي ”

    • اشتقت لوجودك و سطورك …
      و اتفهم تماما كيف لشئ عابر .. كمفرش سرير و ربما الزخرفة التي عليه ان يحمل انسان الى لحظات ابعد عما يراه .. و لحد قد يستنشق به الاشياء رغم غيابها .. هو سحر الصورة .. الزمن .. او معجزة الاحساس و الذاكرة في الانسان .
      احب الياس الرحباني و احب هذه المقطوعه جدا .. شكرا لك بعمق الذاكرة و امتداد الحروف .

  2. بالنسبة لي قد يكون أجمل مافي الحلقة امتدادها هنا ، تعبيرك عنها بطريقتك و بما لديك من ارتباط حسي بالصور التي تتجاوز كونها مجرد صور ، رأيت هنا أعمال كولاج واقعية تحمل مزيج من الرؤية و الشعور و الذكرى و القيمة التي تؤخذ من كل عنصر مرتبط بها من أحداث و شخصيات و حقبات زمنية و أماكن قد لاتكون بصورتها التي كانت عليها الآن فكل شيء يعبر سريعاً و الصورة هي ما يقف بثبات في ركن هادئ لا يراه إلا من أحبه ولا يتأمله إلا من يسكنه الشغف والحنين إليه ، ما تملكه عميق و صادق و مؤثر و الأكثر تأثيراً هو أسلوبك في عرضه و التعبير عنه ، أحببت هذا الموضوع (جداً) .

    • فعلا كل شئ يعبر سريعا .. حتى و ان اخذ منا جهد و عمر و سنين في بعض الاحيان .. يمضي و كانه لم يكن و يبقى الحنين له .
      شكرا لك و لكل ما كتبتيه .. فهو ملهم و مشجيع و جميل .

  3. تدوينة جميلة … دوما ما ارى المصورين يضعوا جزء منهم بالصور … الصور التي بالتدوينة (لذيذة )

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

 
%d مدونون معجبون بهذه: