حُسن توظيف للآلة
كنت منذ طفولة مبكرة احب صوت آلة ” الإكسيلفون” التي تمتد كسلم موسيقي ، مكون من الواح حديدية يتم العزف عليها بعصاة لها تاج يشبه كرة دائرية بلاستيكه ، تلك الأصوات التي تصدر منه عبر الآخرين ، كانت تنعش طفولتي كنسمة تعبر و تحرك داخلي اشياء عدة ، منها الانطلاق و الحماسة و الرغبة في العزف مثلهم ، و قد امتلكت – مثل اطفال عدة – نسخة تحاكي هذه الآلة من احد محلات لعب الاطفال ، و لكن لم يصدر مني أي صوت يشابه عزفهم على اي حال .
حين كبرت أدركت أن لهذه الآلة تاريخ يتجاوز معرفتي بها ، و أنواع تتجاوز الحديد ، و أبعاد تتعدى المنطقة التي كنت أقف عليها و اتمايل حماسا مع ما كنت اسمع و يعجبني ، و هذه الآلة في الغالب جزء من مجموعة ، شخص قد يبدو إضافي لدى البعض و قد لا يشعر بوجوده أحد ، لكنه قادر على إحداث الأثر كأي انسان نعرفه و لا نشعر لفرط صمته بوجوده ، لكن عند غيابه نشعر بأن هناك مساحات كبيرة شاغرة ، و فراغ لا يمكن أن يملؤه بأي حال من الأحوال شخص سواه .
اليوم تذكرت بداية لحن أحببته ، و أغنية لم تكن متوقعة ، أتت في توظيفها الدرامي بشكل لم يستعد المتلقي له فأحدثت اثراً !!
فلا أغنية تأتي بعد مناقشة حادة أو شد في الكلام ، لكن هذا ما حدث في مسلسل “هو و هي” بين الاستاذ مؤنس (أحمد زكي) و مدرسة الموسيقي ( سعاد حسني ) ، فنحن أمام معلم للغة العربيه و صديقة منذ أيام الدراسة ، بينهما ثأر طويل و اختلاف و خلاف في موضوع حقوق المرآة و المساواة و قضايا اخرى عديدة قد خلف النقاش بها أثر سئ داخل كل منهما ، فجعل العلاقة التي تربطهم طوال سنين اقرب إلى علاقة مشدوده لا يوجد بها أي صفاء أو لحظة ود .
يشاء القدر أن يعمل الاثنين بعد فترة في مدرسة واحدة ، و يكون محور الخلاف حول طالبة – التي تعزف على الآلة – لها علاقة اسرية بالأستاذ مؤنس ، الذي كانت مخاوفة تزداد من وجود هذه المعلمة ، و شكوكه تتزايد حول نواياها و شعوره الدائم بأنها سوف تُدخل في رأس هؤلاء الفتيات افكاراً لا تصح ولا تجوز .
ذات درس موسيقي ، دخل و حدثت تلك المشادة بينهم مما دفع الطالبات للخروج ، و بعد خروجه إنطلقت المعلمة في العزف و الرد عليه بأغنية ” البنات البنات .. الطف الكائنات ” و هي تشيد في كل بيت بمزايا البنت و قدراتها على الصبر و حسن التدبير .
بداية اللحن كانت لا تخلو من حماس و سرعة شخص مندفع لرد اعتباره ، غاضب و يستتر خلف موهبته ملجماً غضبه ، فيخرج عمل و أغنية لم يتوقع المتلقي أن توظف في هذه اللحظة ، و أن تحمل هذه الفكرة ، و تأتي بهذه الصورة البسيطة و المؤثرة ، هذا التمهيد لها و حسن التوظيف و التنفيذ في نظري أهم ما جعلها عالقة في وجدان من شاهدها في تلك الفترة و استمتع فعلاً بها .
اترككم مع الاغنية التي أحسنت توظيف هذه الآلة ، و منحتها مساحات عدة في المنتصف – بين الكوبليهات – كآلة وحيدة لكنها قادرة على أن تبرز بين الآلات بعزف منفرد لا يخلو من تجلي و إنسجام .
لقد أعدت مشاهدة هذا اللحن الذي تشارك بوضعه كمال الطويل وعمار الشريعي ، و كتب كلماته صلاح جاهين ، و غنته الراحلة سعاد ، لأكثر من مرة اليوم ، معه تدفقت ذكريات عدة ، و مرت تعليقات كنت و لم ازل اذكرها و ظلت باقية في بالي ، و أنا ارى الفيديو الذي اخرجه يحي العلمي تذكرت أسماء راحلة ارتبطت وجدانيا بها ، و زمن عشته و احببته و أحببت تفاصيله ، مشاهدة ممتعة و وقت سعيد .