قتل متعة المشاهدة
تكرر معي في دبي – و يحدث في وطني و في اماكن اخرى – ان أكون في لحظة صفاء أو انسجام مع الذات أو الآخرين ، لحظة بها تواصل عالي مع الأشياء من خلال التأمل أو مع ارواح مقربة منك خلال حوار حميم أن يأتي شئ ما لينزع من اللحظة استرسالها و تلقائيتها للحد الذي يصعب عليك به أن تعود للنقطة ذاتها بعد مضي ذاك الشئ أو الابتعاد عنه.
هو شئ قريب من الاعلانات التي تفسد المشاهدة خلال متابعة برنامج تحبه أو مشهد عابر على النت ، تلك التي تومض و تخفي ربع الشاشة باستهتار مستفز لك ، فأنت اتيت هنا في الاصل لتشاهد شئ تحبه لا ثلاثة ارباعه و يستخدم الربع المتبقي و أنت في تحسين “دخل” أحدهم دون فائدة حقيقية تعود لك ، و تشعر بغضب أو انزعاج لأنه يتم المتاجرة بك قسرياً و بشكل مباشر!
حدث هذا معي أول الوصول ، و بالتحديد حين اتينا من المطار إلى باحة الفندق ، كان البعض منا منشغلا في اجرائات استلام المفاتيح الخاصة بنا و توزيع الغرف و كافة التفاصيل التي تحدث مع كل قدوم ، بينما مضيت مع الاطفال الذين كانوا بمعيتنا لنرقب مجسم مبنى كبير ، أمامه بحر و تتخلله شوارع ، و به سيارات و اشخاص صغار، استرسلت مع الصغار في الحديث عما نراه مستمعا لبعض ارائهم و اجابتهم، كنا نتحدث و نضحك و نتخيل ، بغتة اقترب مسوق اجنبي ليقطع الحوار، موضحا ان هذا المبنى هو امتداد لفندق كذا و يحتوي على كذا غرفه و ان الاستثمار به مربح ، يشير على حوض السباحة الذي كنا نتحدث عنه و نردد اسمه و هو يقول “هنا حوض سباحة .. هنا بيوت الايجار .. و هنا جهة بيوت البيع ” !
يسهب بينما اتسعت حدقات الاطفال – الذين حاولت ان أنمي مداركهم و اشغلهم – و هي تنظر له ثم انصرفوا لجهة اخرى بينما حاولت ان اشرح له بأننا غير مهتمين بالاستثمار و بأننا كنا نتحدث بأمور اخرى الا ان امام اصراره في ان يُسمع لي ما حفظه بقيت مدهوشاً للحظة ثم كررت شكري اثناء حديثه و انسحبت تحججاً بالأطفال !
المرة الثانية كانت في احد ممرات التسوق حين كنت ارقب الاعمال اليدويه البسيطة و التي تظهر مدى حرفية الايادي التي تعبت عليها سواء كانت مجسمات صغيرة او حلي و ما شابه.
في بداية الانسجام و الانفصال عن الضجيج المحيط بي ، اتى صوت حاد يتحدث الانجليزيه بحروف غير صحيحة و يردد ” مولانو” !
صوت حاول ان يوضح لي بأن بعض الخواتم الموضوعة امامي هي من زجاج “المورانو” و هي آتية من ايطاليا و تفاصيل عديدة قطعت مشاهدتي و جعلتني اشعر بأنه يتوسل مني الشراء مما دفعني للانصراف فقد سلب من ذلك الصباح الجميل بعض ما كان فيه !
“طبيعتي” لم تساعدني على التفاعل و هي دائما كذلك ، و استغرب تجنب المسوقين لطبيعة المتلقي احيانا، و نسيان بأن الانسان و عبر حديثه مع ذاته قد يسوق لألف شئ و في صمته يسول لنفسه شراء اشياء لا يحتاجها !
لدي دوما تقدير للأماكن التي تتجاهلني باحترام ، و بداخلي رضا تام عن الأرواح التي تلقي تحيتها ثم تقف بالجوار البعيد ، مفسحة لي مكان للتحرك و مساحة للتأمل و حرية قرار ، سواء كانت محلات ملابس أو اثاث و حتى المقاهي التي بها النادل يأخذ طلبي دون ان يزعجني بحديث لن يغير من رغبتي في طلب هذا الشئ او ذاك.
اماكن اعود لها ليقيني بانها لن تقتل متعة التذوق أو المشاهدة ، ستكون مسرح استكشف به ذائقتي في الاختيار و انميها عبر التأمل و بانفصال تام و تجرد ، بعيدا عن اي توجيه أو محاولة تاثير تشبه هجوم مباغت للتربح و فشل في احداث تغيير لو يسيير، لكون المقاومة لدي تزيد كلما شعرت بالارغام ، للحد الذي به قد امضي لشراء ما كنت اريد من بائع آخر أو ربما محل مجاور في محاولة مني لازعاج من يزعجني و يفسد جمال اللحظة و يقتل متعة المشاهدة احياناً .