جزيرة في كفّ يدي
استيقاظٌ مبالغٌ به !
لم تكن الساعة السادسة صباحا تماما، و لم تكن الشمس في أوجها، و لم يكن جسدي نشيطاً بشكل تام، و لم تكن الرغبة في الاندفاع نحو اليوم جليّة، و لم أكن قادرا على معاودة النوم!
قرب النافذة توقفت أتأمل من الطابق الثاني عشر الطيور و هي تتكدس و تنتظرني في المكان ذاته الذي بتّ أطعمها فيه منذ وقت و بشكل يومي، ناوياً أجره صدقة لروح أبي، و جميع أمة محمد، و مع مرور الوقت هنا بتّ أضيف -بين يوم و آخر- اسماً جديداً، و روحاً آخرى كانت بيننا، و فارقت هذا العالم.
مكثت في مكاني لوقت أستعرض أسماء من كانوا جزءاً من حياتي و رحلوا، من كنت أراهم بشكل يومي، أو في أوقات متقاربة و متفاوته، و انسلوا من حياتي كالشعرة التي تُسحب من العجين بخفةٍ و سهولة، و لكن أثر غيابهم يزداد مع الوقت، كألم جرح يأتي بعد عملية، و يزداد كلما استيقظنا من أثر التخدير، وجدت أن والدي رحل، و أجدادي الأربع من طرف أبي و أمي، عمي و خالتيّ، و والد صديقي، و السائق الذي كان يصحبني للمدرسة، و الطاهي الذي كان يعد الغداء و العشاء و الشطائر في مواسم الامتحانات، و الكثير من أصدقاء عائلتي، و أقارب آخرين، و قائمة طويلة تتكاثر الاسماء داخلها، و تتزايد كقطرات الماء في يوم ممطر.
وضعت جسدي الذي تبدل، و رأسي المثقل تحت الماء، ثم لبست ثيابي و نزلت كي أطعم الطيور التي تنتظرني في الساحة مدركاً أن الحياة المستمرة لا تنتظر احداً.
الزمن الجميل
بعد أن شَبَعت الطيور مضت، و بقيتُ في الساحة بين العمائر وحدي مع هاتف صغير في كفّ يدي، و صمتٌ لا يُخفف منه إلا أصوات الطيور التي صرتُ أسمعها و لا أراها كأصوات الراحلين الباقية في ذاكرتي.
ضوءٌ على الشاشة، و لحظاتٌ وجدتُ فيها ذاتي في مجموعة إلكترونية هاتفيّة بعنوان” الزمن الجميل”، و في الزاوية صورةٌ توقعتها لأحد ممثلات الأبيض و الأسود، إلا أنها كانت لسيدة فتحت أبواب قلبها قبل بيتها لي و لأختي في أول طفولتنا، و كانت و بناتها هم “الأهل” لنا في بلد آخر عشنا فيه لوقت، و ترك بداخلنا الكثير الذي لا يُمحى و لا يُنسى رغم مرور السنوات.
تبعَ ذلك “صورة” أضيفت للمجموعة من قبل أختي التي أنشأته، شاهدت فيها الطفل الذي كنته في زمن ما، يجلسُ على مائدة ممتدة جلس حولها أشخاص رحل بعضهم عن عالمنا و بقيت صورهم، و المتبقي منا تبدّل كما تبدّلتُ بمرور الوقت، و تغيّر الظروف و الأماكن.
الفتياتُ الأربعة، و أنا و أختي، و ما يربط بيننا جميعاً، “غربة” عبرت حياتنا فاقتربت الأسر من بعضها البعض، و ارتبطت لسنوات، ذكريات عديده، و أقدار مختلفه حملت كل منا إلى طريق، و شكّلت حياته في قوالب لم يكن يفكر بها في تلك الصورة أو يتخيلها.
انتابني بعض الانقباض، و التأثر و ربما الانزعاج الذي لم استطيع تحديده ….
هل هي المباغته !؟
هل هو الإحساس الذي انتابني أول اليوم؟
هل هي عودة الراحلين رغم وجودهم داخل روحي ؟
أم هو الخوف من أن تكون رفقة الماضي قد تغيّرت و بتنا لا نحمل من أنفسنا سوى الأسماء!؟
أغلقتُ الهاتف لبعض الوقت، و ذهبتُ لتناول القهوة، و إحساس بالحيرة ينتابني، ثم فكرتُ بالأمر من زاوية آخرى بعيدة عن الأسئلة المتكاثرة و التي غدت جزءاً من نمط تفكيري، و تشتتني، و لا تحمل أي إجابات.
تسألتُ: ” أليس الله هو من كتب و رتّب هذا الجمع الذي أعدّته أختي لنا جميعاً كوننا قد نحتاجه جميعاً في هذا الوقت!؟”
الجليد كذبه !!
توقعتُ أنّ الوقتَ بمروره وضع سطحاً جليدياً بيننا رغم صفاء قلوبنا و لم نشعر به، تخيّلت أنّ واحداً و عشرين عاما، و ربما أكثر كانت كفيلة أن تجعل الحوار القائم أقرب إلى الأداء اللبق من الاندفاع التلقائي و الحديث من القلب، و بشكل مباشر تلمّستُ الخطى في أول الحوار بهدوء، لكن دونما شعور انطلقنا جميعا من الكتابة الى تسجيل الرسائل الصوتية بأصوات ضاحكة، و سعيدة من القلب، و متأثرة حينا آخر و كأننا نحلم!
لم يعبر في مخيلتي الواسعة أنّ “التكنولوجيا” سوف تكون بديلاً لشقق قد جمعتنا بالماضي، و لم أتخيل أن جهازاً بحجم اليد قد يغدو “جزيرة” محايدة تجمعنا دون حدود مرسومة، أو جوازات تُختم أو سفر، فقط كل منا ركب قارب قلبه الشراعي، و مضى صوب الآخر بحنين السنين الماضية و شوق سرمدي لأزمنة مضت، و امتنان لله بأننا على قيد الحياة ، و نتفاعل بحب و صدق معاً.
ست ساعات انقضت و لم نشعر بها، من التاسعة صباحاً و حتى الثالثة عصراً، حوار متقطع متصل، مرح و مريح، و لا يخلو من تأثّر و غصة نبتلعها، و نستمر بالتنفس و العيش، كوننا بمرور السنين عرفنا طبيعة الحياة و تركيبتها، و بتنا قادرين على التعامل مع المشاعر المتناقضة في ذات اللحظة و باحتراف !!
الأبواب تُشرّع
لم يكن الحديث مجرد قصص تُروى بل كان أقرب إلى غسل أرواح متعبة بماء شافٍ أعاد لها إحساساً مفقوداً، و شعوراً منسياً يرافقه الكثير من الأمان و الراحة!
كانت الذكرى تجر ورائها ذكريات، و القصص التي تُذكر بكلمات بسيطة و التعليقات و الأسماء، تستجلب داخل النفس قصصاً آخرى، و صوراً، و مشاهد، و المزيد من الحكايات التي يسمعها كل منا في صمته و على انفراد رغم اجتماعنا في هذا الجروب سوياً !
كنت استذكرهم تماماً و كأني أراهم، و دونما أدنى جهد عدت ذلك الطفل الذي يعرفون، حتى بعد الانتهاء و انشغال كل منا بحياته اليومية، ظلت الروح مشتته بين سعادة مسروقة في حياة تسرقنا، و من حنين مُتعب لحياة مضت كحلم عبرناه ذات يوم و صعب أن نعود له.
“كوننا بمرور السنين عرفنا طبيعة الحياة و تركيبتها، و بتنا قادرين على التعامل مع المشاعر المتناقضة في ذات اللحظة و باحتراف !!”
كم نعرف الدنيا، لكنها لا تعرفنا.. تُجري مسلّماتها على الجميع.. دون أن تعي أننا لسنا (جميع)..وبأننا متفاوتون أمام سطوتها..
فثمة أفراد لا يمكنهم إنكار مسلّماتهم لأجل مسلّماتها.. فينتصر فيهم الحنين.. والأنين.. والذكرى.
بُشـــرَى، (@bushraray) said this on أوت 3, 2020 في 2:47 ص |