محراب
في طفولتي و حين تعلمت الكلمة كنت ادرك معناها المتعدد، مع العمر تحجمت و باتت مرتبطة لدي بالمسجد و الصلاة.
مؤخرا كنت أفكر بطبيعة الغرف التي يجب ان تتواجد بالمنزل مثل مطبخ ، مجلس ، مكان لقضاء الحاجة، غرف نوم و منطقة لغسل الملابس و اخرى لنشرها، تفاصيل عديدة تمنحني بتضافرها فكرة البيت و فلسفته لدى كل فرد منا، و البعض ممن تيسرت له المساحة و الحالة المادية، قد يضيف غرف ترفيه للنفس مثل قاعة سينما، او مجلس مخصص لمشاهدة الافلام، او مكتبة يضع بها كتبه و يخصص بها مكان للقراءة، و ربما غرف للاهتمام بصحة الجسد و تجديد طاقته مثل حمام سباحة و غرفة لأجهزة الرياضة او حتى حمام بخار او سونا.
في تلك الزحمة المعمارية طرأت في بالي فكرة روحية، غرفة بها تتجدد النفس و تسترخي، تركن بها لخالق هذا الكون و تتأمل ذاتها و ما يحيطها و كافة ما خلق، تعيد حسابتها و تأخذ “هدنه” من عالم البشر لعالم آخر تسمو به حتى على ذاتها، تبسط الامور و تحاول ان تفهمها، مساحة تعيش بها اعتزال مؤقت به ننشد الاكتمال او تغيير الحال، بها قد تسعى للفهم او للاستزادة في العلم او الدين، مكان به تشعر بالصفاء و تحاول ان تتجاوز حالة التعلق بالناس و الاشياء، فضاء تعلم به انك لست وحدك و تستحضر فيه وجود الله و تستشعره أكثر.
هناك في غرفة علوية، داخل منزل قديم قد انتقل له و يحتاج لبعض الوقت و الكثير من الترميم، لمحت في رف النافذة حمامة ساكنة في العش تمنح الدفء لصغارها القادمين، طارت فزعه في لفة صغيرة بالسماء ثم عادت حين ابتعدت حرصا على ان لا أخيفها، في دورانها و متابعتي لها لمحت مأذنة المسجد في الخلف و استشفيت قرب صوت الاذان في هذا المكان، و تلقائيا شعرت برغبة في القراءة بين جدران هذه الغرفة و خلق جو بها يرتبط بالثقافة المنسية و التراث المهمل، لكن دون كلفة او بهرجة، و تخيلت ان اجعله هنا في زاوية البيت بالدور العلوي و أن تبقى الحجرة بلا باب، الضوء يدخلها من كل الجهات و أهل البيت، بها اريكة ممتدة تشبه مضجع مستند على جدار، خلفه النافذة التي تطل على المئذنة و قد اتسعت اكثر، لتمنح اضاءة مريحة للقراءة في الصباح بالاضافة لضوء مناسب في المساء، مع مكتبة صغيرة و سجادة صلاة، و ارض فرشت بالموكيت الفاتح اللون، و في الركن مكتب جدي الذي اخذه اخي لفترة ثم اصبح اليوم لدي، هناك بقرب نافذة اخرى ترقب الشمس عند الغروب.
كانت هذه البذرة التي بدت تنمو مع الوقت داخل رأسي و افكر بها دونما اختيار و اتخيل.
هاجس اود به ان امنح روحي المضطربة كموج الحياة بعض السلام، فكرة اسعى بها لتنمية الجانب الديني و الروحي لدي، اضافة الى الصبر و القدرة على التحكم بالذات التي ضعفت و مع تقدم العمر تزداد ضعفا، تماما كما يحاول الانسان تنمية عضلاته و تنشيطها، او كما يسعى الغريق للتعلق بقشة تواسيه و تنقذه من محيط يضيع به بلا بوصلة و يبحث عن حجر ثبات أو مركب يقين.
في يوم مولدي هذا العام عدت لموقع على الانترنت عرفتني به احد قريباتي في انستجرام، ذات نهار حين بعثت لي بصورة لفتاة تمطي فرسا و تتجه نحو احد اماكن العبادة، كان عنوان اللوحة “هدنة” و قد احببتها و فكرت باقتنائها لتلك الغرفة التي سوف اضيف لمنزل قادم ذات يوم.
اتصلت و تواصلت و اكتشفت انها ليست للبيع و ان العمل مرتبط لدى الفنانة التي انجزته بوقت خاص مرت به و طلبت مني ان ابحث في الاعمال الاخرى في الموقع ربما وجدت ما يعجبني.
حين مضيت وجدت آية منقوشة يحبها ابي رحمه الله ” و نحن اقرب اليه من حبل الوريد”، و المزيد من الاعمال التي اقتنيتها لأجل الحلم المؤجل، لكنها حين وصلت شعرت برغبة في اظهارها لا حفظها لوقت لاحق.
شعرت أن ببعض التعديلات قد اجد لها على الجدران مكان الآن، و اضيفها للمكان الذي خصصته منذ وقت للسكون و الهدوء لصمته، و هو غرفة ملابسي القريبة من غرفة نومي و التي يفصلها عنها ممر صغير اضفت به بعضا من هذه الاعمال الجديدة بعد ازالة بعض اخر، اصبحت قرب الكتب و المكتبه، كما اضفت في جدار غرفة الملابس المتبقي مع اعمال اخرى، و سعدت بذلك كونه سيضيف لرمضان الآتي بعد أيام ابعادا جديدة و احساس مختلف.
اعود لكلمة المحراب و التي تعني ارفع مكان في المسجد و هو مقام الامام، كما تعني صدر البيت او ارفع و اكرم مكان به حين نربطها بالدار، و المحراب هو الموضع العالي، و احيانا مجلس الناس و مجتمعهم، و احيانا حجرة في صدر المعبد او المسجد كما كانت سيدتنا مريم تجلس في المحراب كلما دخل عليها زكريا و وجد عندها رزقا، و بالتالي هي احيانا غرفة و ربما في معنى آخر قصر او بناء مرتفع و ايضا مكان للخلوة و العبادة و مؤخرا كان بالنسبة لي موقع في الاثير اقتنيت منه العديد من الاعمال التي سعدت بها.
كما اشعر ان كلمة محراب مرتبطة نفسيا لدي بمحارب، كون الشخص احيانا يصارع ذاته في معركة العبادة و السمو، يسعى الى العلو عن شهواته و تجاوزها، تماما كما في الحمية الغذائية حين يعبر بوفيه مفتوح و شهي و يسعى للاكتفاء و الزهد لنتيجة ابعد و يمر بتجربة اصعب على روحه فالنفس تواقة للذة و المتعة و تحتاج بين وقت و آخر للتخفيف من عبء افكار كثيرة قد تزدحم في الرأس دونما جدوى، او التخلص من مشاعر تضطرم في النفس دونما هدف، كي تمضي لما قد يحسب لها لا عليها، و ما يضيف لها و لا يسلبها، تماما كصيانة الجمادات مثل السيارة او بعض الاجهزة الطبية او الحاسوبية، او حتى الهاتف الجوال او الراوتر، فالاشياء بعد فترات معينة تحتاج الى اعادة تشغيل و ربما الى اغلاق مؤقت تستعيد به طاقتها و ربما الى اعادة شحن، و من هنا كان تفكيري بهذه الغرفة التي اعدها محرابي الروحي، و ملاذي الذي استثمر به بعض وقتي الذي يعد بعض عمري في منطقة آمنة و مضمونة، بعيدا عن مضارابات سوق الحياة التي تمضي سريعا و دون ان تتوقف لاجل احد او ترحم أحد.
مكان يشبه غرف الاسترخاء في “السبا” معنويا، و تواجدي القصير به قادر على اسعادي و لو نسبيا في اغلب الاوقات و منحي شعور بالهدوء و الرضا.
اضافة :
- اسعدني ان بعض اللوحات يذهب ريعها للعمل الخيري كوقف فني.
- تعلقي بهذا النوع من الفنون اتى مع الطفولة و بشكل فطري و قد اقتنيت مجسم على شكل محراب منذ عدة سنوات و هو ايضا متواجد في غرفة الملابس.
- بعض الاعمال التراثية التي لدي مثل اسماء الله الحسنى منقوشة اربيسك هي من مقتنيات ابي رحمه الله .
- اعددت فيديو قصير لهذه الاعمال و المكان مع ابيات من قصيدة مترجمة لأبن الرومي.