كحل و حبهان
هذا الكتاب كان العامل الأساسي لشراءه الصدفة !
خبر في أحد الصحف اليومية، و غلاف عليه صورة مديحة كامل، ظهرت عليه بالشكل الذي رأيتها به فعلاً ذات مرة، وجه مريح و صادق و بعيد عن الأدوار التي كانت تمثلها و يقارب روحها و حقيقتها.
عمر طاهر لم أكن من قرائه، شاهدته لأول مرة خلال لقاء ظهر به مع الفنانة اسعاد يونس في برنامج”صاحبة السعادة”، ترك انطباع طيب كانت نتيجته أني وجدت ذاتي في كل “معرض كتاب” اقتني كتبه لعلي اقرأها يوما ما.
وجه مديحة على الكتاب دفعني للبحث عن المزيد من التفاصيل، لذا مضيت من صفحة “الخبر” على الإنترنت إلى موقع “جود ريد“، الذي يعطي نبذة عن كل كتاب و احيانا يضيف سطور منه، بالاضافة لوجود اراء و انطباعات من انتهوا من قرائته و حكوا عنه في هذا الاثير المتسع.
هناك وجدت فقرة جذبتني للكتاب، اكثر التشبهيات التي تم استخدامها تدور في فلك المطبخ و الطعام، هذا الأمر بكل امانة كان قريب لنفسي، يداعب غريزتي، وسلوك كنت أقوم به احيانا، و سبب آخر دفعني للبحث عن الكتاب و زاد رغبتي في قرأته.
***
رحلة البحث عن الكتاب في مكتبات السعودية لم تكلل بالنجاح، لذا قررت حينها بالاستعانة بصديقة مصرية تعيش في القاهرة.
في يوم ٥ فبراير أرسلت لها صورة الكتاب مع عبارة توضح عدم قدرتي على ايجاده، و بكرم أعرفه ابدت حماسها في مساعدتي، و “الصدفة” الاخرى انه كان اخر يوم لمعرض الكتاب في القاهرة و هي ذاهبة اليه.
ارسلت تفاصيل دار النشر و ما شابه و قررنا ان تشتري نسختين، واحدة لي و اخرى لها كي نقرأه معا في شهر “مارس” القادم، حين تزورنا في مدينة الرياض.
حين دخلت المعرض وجدته امامها بكل يسر و سهولة، صورت لي الكتابين و هما في قبضة يدها، انتابنا حماس مؤقت ثم مر بنا الوقت …
كان زمن قصير لكنه مر طويل و تخللته احداث كثيرة في حياتنا و حولنا ..
اخبار غريبة و احداث غير منطقية تحدث في هذا الكوكب …
قصة أم حبست طفلها عشرة سنوات تحت الأرض ..
اشاعة ظهور ابن لتشارلز من كاميلا قبل زواجه من ديانا ..
شريهان سوف تمثل عمل مسرحي بالسعودية ..
و سؤال متطفل “سهير رمزي و شهيره هل شالوا الحجاب ام لا !؟ “.
حمية ” كيتو” تحتل المشهد ..
علاء مبارك يرد على عمرو اديب ، عرض مسلسل” اهو ده اللي صار”..
وفاة “ناديه فهمي” و الزهايمر، فلاش باك “منفرد” و تذكر مصر السبعينات و مسلسل “شرارة” (!).
انهماك بالحياة و مشاغلها ….
سؤال سريع ” كم باقي على وصولك؟ “.
اجابة أسرع ” ثلاث اسابيع بالضبط”.
المزيد من الوقت ، مع احداث اضافية على الصعيد الشخصي و اخبار مستمرة .
” انغام تزوجت و البومها فوق الوصف ” .. حبيت بس اغنية ” ولا دبلت” و احس اللحن مألوف !
صورة على “الواتس آب” من نفس الصديقة و حديث عن “شطة جديدة اكتشفتها و طعمها حلو”.
متابعة مستمرة لأخبار “غير مهمة”…
ففي عالم يغرق كنا نهرب بسلبية من الغرق لتلك الموضوعات، نخدر انفسنا بالحديث عنها..
نتابعها و كل منا مكتفي بغرقه الشخصي و هذه الأخبار …
” قطة مصمم الازياء الراحل كارل لاجارفيلد ترث ١٥٠ مليون جنيه استرليني” !
” مطربة شهيرة وراء تسريب خبر زواج أنغام .. و السبب ؟”
” اصالة “زعلت .. و بطلت تتابع ” أنغام” .
“فاصل موسيقي” يأتي على شكل رسالة بها رابط لأغنية مصطفى حجاج ” خطوه” .
” واشنطن تطلق حملة لوقف تجريم المثلية في عشرات الدول ” !!
” رامي مالك خذ الاوسكار … رامي مالك مصري ”
” انغام تعلن زواجها رسميا ” …. و “تغريده غامضه من اصاله” !
صورة على “الواتس آب” من نفس الصديقة بعد حادثة القطار و هي تقف بين الطوابير التي اصطفت للتبرع بالدم.
التفكير في البدء بنظام حمية من قبلي …
و الغرق في وصفات طهي و صناعة حلويات جديدة من قبلها …
الاستمرار بأخبار عن مايكل جاكسون في كافة وسائل الاعلام… و سؤال عابر منها ” انت مصدق !؟” .
سؤال آخر مني ” باقي كم يوم ؟ ” … جواب اسرع ” تسعة ايام فقط .. الاثنين القادم بإذن الله ”
أيام و وصلت و معها الكتاب و كتب اخرى و هدية أثيرة ” بسطرمة و جبنة رومي “.
***
هي أيام اخرى و انتهت الرواية بين يدي ، كأي طبق كنت تشتهيه و حصلت عليه و التهمته، لكن حرصت خلال تناوله أن تستمتع به قدر المستطاع و لم يكن ذلك بشئ صعب كونه كتاب يساعدك على ذلك !
هو كتاب قد لا يعد من أهم الكتب و لن يحصل على جائزة البوكر ، لكنه كتاب حقيقي و صادق، لمس مشاعري و اجزاء كثيرة به حازت على أعجابي.
ربما لغته العربية ليست مثل الروايات المكتوبة بالفصحى و بنمط ادبي متعارف عليه، لكن لغته مرتبطة بمحيط و بيئة معينة “فقط” عبر تلك اللهجة سوف تصل لك.
كتاب إن كنت تحب الطعام بشكل عام و المصري تحديدا ستحبه، و ان كنت تنتمي لجيل السبعينات و الثمانينات ستحبه !!
كتاب به ” البوح” و ” الاسترسال” يجعلك تتصور ان الكاتب مسك الورق و انطلق فحسب ، لكن عند التدقيق مرة اخرى ستدرك بأنك اخطأت، فهو كتاب مرتب و محبوك كفنجان قهوة موزون تم تقديمه لك في وقت كنت تحتاجه.
إنها رواية لا تخلو من تكنيك عالي يقترب من حدود السينما و يغرق في تفاصيل التلفزيون الذي كنا نحب و نعرف.
بين دفتيه ستجد مقدمة بلا “تقديم” و خمسة فصول “حرة “، فلا قوالب معتاده هنا، كون الراوي يرسم الخطوط و طريقة سرد الأحداث دون أن يضع عليها “تصنيف” محدد، يدمج الزمن و يختزله في خمسة أيام و سنوات عديدة، يشرح “لحظات نفسية” قد تجد ذاتك في إحداها و يمنحك في الختام نهاية سعيدة .
يستهل الرواية عام ١٩٨٨ ميلادي في “بيت العائلة”- المقدمة- و يضعك معهم، تتعرف على اغلب الشخصيات و طبيعة المنزل بومضة سريعة، بطل القصة يبلغ اربعة عشر عاما ، لا يسكن العاصمة و احلامها تسكنه، نجم شهير سيأتي ليقيم حفل في النادي الكائن في اخر شارعهم بعد خمسة ايام و لديه رغبة بالحضور ، التحدي كان في اقناع الأب الذي افصح بأن قراره سوف يترتب على سلوك الأبن خلال الأيام الخمسة.
“خمسة ايام” اختزلت مرحلة مراهقة كاملة و زمن معين ، انتجت لنا خمسة فصول ، مليئة بالمشاعر الانسانية، التفاصيل اليومية، الذكريات المرتبطة بكوبليهات الأغاني، سطور تحكي عن ” العيش و الملح” عن تسامح الأهل و عن ذلك الجرح ، مشاهد تُظهر تناقض العاطفة و صدقها، العنف الذي يأتي بأسم التربية، و الألم الذي يأتي بأسم الحب ، و الحيرة التي لا تنتهي و الحياة التي تستمر.
ايضا استخدم الراوي تقنية تداخل الزمن ، فنحن نبدأ كل فصل في عام ١٩٨٨ميلادي، و نعود إلى تلك الأيام المحددة بالتحديد، فكل فصل هو يوم من الأيام التي تسبق الحفل المنتظر، و في كل يوم نتابع بطل القصة و ما يحدث معه ، نتعرف بشكل مكثف على حياة رتيبة و في بعض الأوقات كئيبه و كثيرا ما تكون واقعية و دافئة، و في خط موازي و في كل فصل ننتقل الى القاهرة في اعوام مختلفة ، تبدأ في عام (٢٠٠٨) ثم ما بعدها، لنتعرف على حياة البطل بعد أن كبر في العاصمة ، نراه بالتناوب في المرحلتين و نتابع احداث حياته ، طرق تفكيره ، وصفه و تعبيره ، احساسه بكل ما يحيطه و تأثيره عليه، كل هذا خلال فترة خمسة ايام تتخلها سنوات، و هذا ببساطة “تكنيك السرد” الذي استخدمه الراوي في الكتابة، و الذي يدل على وضوح في الإسلوب و الرؤيا لديه، و بأن العملية ذهن له تصور و لم تكن مجرد بوح و سرد و تعبئة ورق، فالأمر قد يبدو سهل لكنه دقيق، و العمل الأدق كان الحفاظ على المتعة و اهتمام القارئ ليستمر .
لن احرق تفاصيل الرواية، و لن افصح ان كان سيذهب الى الحفل من عدمه، لكن اود ان اسجل اعجابي بشخصية “صافية” التي احببتها و اترك لكل من سيقرأ متعه اكتشافها.
***
هناك اشياء اثارت شهيتي في الطعام، و ربما كانت ابسط الموجود، لكن ربما لأن بها الكثير من العاطفة جذبتني، مثلا هذا الجزء الذي كان يتحدث به عن جدته و ابيه :
” في ليالي الشتاء كنت أرى جدتي تضع أمامه طبق العدس الأحمر و الرغيف الشمسي و منطال السمن البلدي، و كلما غابت بقعة السمن عن وجه الطبق كانت جدتي تضع له واحدة جديدة”.
كما ان هناك طرق في الطهي و اشياء اكتشفتها لاول مره و احببت ان اجربها، مثلا مشروب القرفة الذي اعرف، قدم هنا مع عنصر اضافي جديد لم افكر به مطلقا و ظهر في هذا النص :
” كنكة كبيرة مليئة بالماء فوق وابور الجاز، القت أم رحاب داخلها ملعقتين كبيرتين من القرفة، ثم اضافت بعد قليل ملعقة عسل أسود، ثم وضعت الكنكة جانبا، دفنت يدها في جوال السمسم، ثم افرغت قبضتها الممتلئة في الكنكة و قلبت المزيج و صبت لكل واحد كوباً “.
كما شعرت ان تعليمات ابيه على المائدة تصلح لأن تكون وصايا و برتكول و اتيكيت يجب أن يتعلمه الكثير من الناس و خاصة بعض الذين اعرفهم حين قال :
” البطنة تذهب الفطنة يا عبدالله، كُل ما تشتهي فقط لأن ما لا تشتهيه هو الذي يأكلك، الشبع يميت القلب، فلتغادر المائدة لا جائع و لا شبعان، صغر اللقمة، لا تصدر صوتاً، لا تتكلم و في فمك طعام، لا تنظر الى طبق غيرك، لا تقم عن الطعام قبل أن نقوم جميعا، و لا تجلس قبل أن نجلس، لا تضع ملعقتك في الإناء الذي نغرف منه جميعا،لا تقلب محتويات الإناء قبل الغرف منه، امضغ جيدا، اعزم على ضيوفك”.
ايضا انتابني احساس غريب خلال القراءة ، و بت ارى جه البطل في مخيلتي حين كبر و كان يشبه إلى حد كبير الممثل “ماجد الكدواني” !!
ختاما أتمنى ان يمسك سيناريست “شاطر” هذه الاحداث المتداخلة و الشخصيات الثرية و يغزلها بعناية، لينقلها لنا مخرج “فاهم” عبر مسلسل انساني لن تنقصه العذوبة و الصورة الحلوة، يخرجه للتلفزيون بلمسة سينمائية تشبه الحلقات الاولى في مسلسل “ذات” و تتفوق عليه، فهنا عمل البطولة به ليست للأحدث فحسب بل في رسم تفاصيل و ابعاد كل” شخصية”.
نهاية اشكر الكاتب على جهده الذي منحني اوقات حلوة كنت احتاجها و احساس معين في زحمة هذه الحياة كدت افقده!!
***
مقاطع احببتها و لمستني :
- ” وقعت في غرام القهوة لأنها مشروب فردي، يليق برغبة في التوحد و الانعزال قليلاً”.
- ” ليست لدي أي ثقة في نفسي ، و أتوقع مني أي شئ”.
- ” تفهم أمي كيف تخلق الفرحة في قلب ابنها الذي لا يفهمه أحد”.
- ” اين ذهبت تلك التي إن قالت وداعا انقسم اثنين ؟ “.
- ” خلقت الحياة من اجل واحد، ثم اقتضت الحكمة انه من الافضل أن تتم قسمتها على أثنين”.
- ” هي عادية لكن فاتنة، و فتنتها انها جعلتني احب نفسي”.
- ” في هذا البيت التربية مسؤولية الأب، و الحياة مسؤولية أمي”.
- ” القهوة مشروب سعته شخصان على اقصى تقدير،المساحة الأكبر في حوارهما للصمت”.
- ” بداخله فيلسوف لم يحصل على فرصته”.
- ” اريد ان أخبرها أنها تبدو عادية ، لكن عندما أطل داخل روحها أرى معجزات”.
- ” أريد أن أخبرها أن ما بداخلي يبدو في لحظة كأنه لا شئ ، ثم يبدو في اللحظة التالية و كأنه كل شئ”.
- ” أفشل كثيراُ في أن أفهم نفسي”.
- “يقدم المحشي للواحد مشاعر تشبه مشاعر العودة الى بيته و حضن اهله بعد سفر”.
- ” الحصول على فنجان القهوة الذي يرضيني امرا يعتمد على الصدفة. شئ قدري للغاية لا منطق له و لا قواعد، تماما مثل الحب”.
- ” تحكي أنها عقب وفاة والدها كانت تقوم ليلا من النوم منقبضة الصدر، يؤلمها أنها لن تستيقظ على صوته صباحاً، كانت تهرب من هذا الألم إلى طاسة التحمير”.
- ” عناق المطر و التراب هو رائحة الحياة في صورتها الأولى”.
- ” شعرت بالحرج في أول مره تجشأت فيها أمامها، فما كان منها إلا أن طبطبت على معنوياتي، و أزالت عني الحرج بأن تجشأت هي أيضا بصوت استعراضي، فضحكنا”.
- ” أنت تأكل مع طبيخ الأم أشياء كثيرة: الزمان، و المكان، و الرائحة، و الأصوات”.
- ” لم يحزنها رحيل شخص أحبته، لكن أحزنها سوء اختيارها، شعرت بالخوف من نفسها، وأهلكها تأنيب العقل، سوء الأختيار لا شئ يضمن عدم تكراره”.
- ” بخصوص العلاقات العاطفية، أبدو ساحرا في البدايات”.
- ” انا طفل وحيد ، اعتدت منذ سن العاشرة على أن اعيش بمفردي، ولو في حدود غرفة”.
- ” استطيع ان اتفانى في خدمة العالم لكنني لا أطيق نفسي في سجن شخص بعينه، أفسد قصص الحب دائما لأنقذ شخصا يجد راحته في التجول داخل بيته عاريا”.
- ” يتحدثون دائما عن حاجة المرأة للشعور بالأمان مع الرجل الذي تعيش معه ، لم أسمع يوماً أحدا يفتح سيرة حاجة الرجل لهذا الشعور”.
- ” قلت لنفسي : ماذا كنت تنتظرين ؟ … و قالت نفسي في أسى : لا شيء”.