يا شوق
هي أغنية أطلقت خيالي مع الكلمة واللحن والأداء – رغم غرائبية التركيب الذي أحببته هنا- فهناك “حزن عميق” في الحرف، عزلة و شعور بالافتقاد، و “بهجة كبيرة” في الآلات و المحيط الذي يعبر عنها.
انطلاق في الصوت غير مكتمل – بتعمد- ليشعرك بأن هناك المزيد الذي لم يقال تماما كمشاعر العاشق التي عبّر عنها باختصار وجيز و دونما إسهاب ، فهو يفصح للمحبوب عن افتقاده له دون توسلٍ مهين ، عاشق منسي أتعبه الجفاء و شوقه، يعّبر بتماسك و دونما إفراط بين الجمع الساهر و كأنه يواري جرح قلبه خلف أغنية غارقة في الفرح .
يحكي دون إسهاب و كأن مشاعره “موجز الأخبار” الذي يقول رؤوسها دون أن يغرق في تفاصيلها ، يقوم بالخطوات المطلوبة منه دون أن يتجاوزها، يمشي على حبل المشاعر كلاعبي السيرك ، و هو يحاول أن يُسكت إلحاح قلبه ، و يحافظ على عزته لذا ظلّ يسير في الطريق الذي يُقرّبُه إلى محبوبه و ينتظر دون أن يسير على ذاته أو كرامته أو نفسه و يجعلها جسراً للوصول ، بل يعلنها بوضوح ” القلب لو تحرقه بالنار .. ماني جايع ولا حافي”!
هنا مقدمة موسيقية متدرجة و قصيرة للغاية ، بها الدفوف تبدو و كأنها “قلبُ المحبّ” حين رأي محبوبه صدفة في تجمع مزدحم كبير، تتبع ذلك “آلة موسيقية ” – أظنها أورج – و كأنها المحبوب نهض من مكانه حين رآه كيداً ليرقص و يتمايل ، فيبقى هو مخفيا شوقه تحت قناع مبتسم غارق في اللامبالاة. تتبع ذلك “صفقات كفوف الحضور” معلنة بدء احتفال ما دون أن تعي أن في الأفق قصة لم تُحكى، و شعورٌ لما يُقال.
مقدمة أبدع في توزيعها ” الهرمي” ، لكونها بسيطة تجذب المتلقي ، و تثير انتباهه ، و كأنها طرقات المسرح قبل بدء العرض ، هي مقدمة لا تتجاوز العشرين ثانية يقطعها صوت ( راشد ) الذي بدخوله تتوارى الآلة التي تشبه جسد المحبوبة الراقص المتمايل .
و يستمر هذا الأمر بشكل لافت طوال الأغنية ، فتشعر كأن هناك تجافٍ بين صوته و بين صوتها و ابتعاد ، رغم اجتماعهما في أغنية واحدة؛ فهو لا يغني معها بشكل مباشر لكن قد يبدي استغرابه ببرود مثلها أثناء رقصها – كل هذا بعين خيالي – مرددا عبارة ” يا سلام” !!
صوت راشد هنا مرتاح ، و في منطقته التي تخصّه ، منطقة بين الغناء و النداء ، شيء أقرب للحديث المُغنى ، تشعر بذلك في بداية الأغنية ” ياشوق .. ” و المقاطع التي تشبهها مثل ” افتح معي صفحة التذكّار … ” أو ” ما عاد تخفى عليك أسرار .. “، و هي منطقة تشبه البصمة ، و إن حاول تقليده بها أصوات آخرى .
عبارات هذه القصيدة ، و للدقة كلماتها قد تبدو غير معقدة ، و آتية من اللهجة المحكيّة العادية ، لكن تم تنسيقها هنا بطريقة سلسلة ، فريدة في تركيبها و صياغتها ، تظهر لك بشكل مبسط و مختلف ، لكنه جزيل بالوصف ، وللدقة وصف أبعاد حالة عاطفية خاصة ، و رواية قصة أو موقف في كلمات محدودة جدا.
وهذا ما جعلها أغنية شديدة التعقيد ، و غزيرة رغم بساطتها و قربها للقلب ؛ فهي لا تقدّم محبا عازفا او آخرا مقبلا ، بل عاشقا يقف في منطقة يعرف حدودها و يسرد شعوره و قصته، يُعلّن ُأن ما حدث من محبوبه لم يحدث سابقا ، و ربما لا يستدعي ذلك ” ما صار هذا الجفا ما صار” ، ثم يعدّّد ما يعنيه ، و يؤذيه في هذا الجفاء المركب و بكلمات قصيرة ” تصد و تغيب و تجافي” ، و الأولى هي أن تشاهد الشخص ثم تتجاهله ، و الثانية هي تعمد الاختفاء من أمام عينيه و أيامه ، و الثالثة هي القدرة على عدم الاستجابة و البرود .
ثم يطلب من محبه أن يعيد حساباته عبر استعادة الماضي ” افتح معي صفحة التذكار “، يوضّح له أنه الأقرب لنفسه ، و على علم بكل شيء بدءا من “موجز أخباره” و ” شخصيته ” و ” ردود أفعاله” وأن لا أسرار هنا ، فهو بات مثل صفحة مقروءة أمامه، بل كتاب مفتوح لا يُخفي شيئاً ، لذا كان يؤذيه و يثير حنقه أن يسأله و باستغباء شديد عما حدث لذا يعاتبه قائلاً :” يا كيف تنشد وش اللي صار!؟”، و ما حدث كان منه ، و هو في أعماقه يعي تماما ما فعله .
هنا عمل للفنان لا الشاعر “ساري” قريبٌ للقلب ، و متكامل ٌ أحببته ، و أعادني تلقائيا لعمل آخر له أحبه جدا و هو أغنية ” بين غلاي ” التي أداها بتميز ٍ (ماجد المهندس ) و لحنّها باختلاف رابح صقر .
هي أغنية قدّم فيها كل طرف أفضل ما لديه ، و دونما تشنج أو إدعاء ، بل ببساطة و أناقة و ارتباط عميق بالثقافة التي أتى كل منهم منها ، و هي ثقافة شبه الجزيرة و الخليج ، أغنية دافئة كرمال الصحراء ، متسعة المدى كسمائها ، حرة كطائر عابر ، و خفيفة كغيمة !