طُرق لا تشبهنا
يحدث أن نسير في درب لم تألفه خطانا من قبل ، تجذبنا عتمته و الاضواء التي تومض من بُعد ، نرى في ضبابه عنصر مغاير ، في عدم اتضاح الرؤيا مغامرة توقظ الفضول بداخلنا ، يأسرنا الغموض و يسرقنا من طرق الفناها و عشنا بها لسنوات ، درب جديد ينادينا من احياء لنا بها ناس ، يقطفنا من نوافذ بيوت هادئة ، كنا من خلالها نرقب العالم بسلام ، و نتسلى في الليالي الطويلة بمتابعة القمر المضئ المكتمل و كيف يتبدل حاله في أول الشهر و آخره .
في هذه الأرصفة الجديدة نسير ، بيد مفتوحه تود أن تقبض على يد اخرى ، مخافة أن تضيع !
هنا قد نكتشف بداخلنا أشياء لم تظهر في الضوء ، نرى بعض أعماقنا و نخاف أنفسنا ، في هذه الظلمة تُضئ ظلمتنا ، فنسقط في هوة لها لون داكن ، لا نعرف لها حدود أو أبعاد ، نستشعر أن المنطق مفقود هنا ، و التوجس له رائحة على طول الطريق ، و لوقع القدم رهبة ، فكل خطوة هي بمثابة نهاية قادمة أو بداية جديده !
نسمع صوت بل أصوات ، لكن لا احد ينادينا بأسمنا الذي نعرف ، و لا أحد يعرفنا حقا ، فنحن هنا غرباء ، نمضي معهم بلا ماضي و بلا مستقبل واضح ، نستمر بالسير خلفهم و نحن ندرك بأنهم لا يقدروننا بالقدر الذي نستحقه ، فنحن بالنسبة لهم مركبة عبور ، ممر يدخلونه و هم يعلمون بأنهم متجاوزيه ، فلا يمنحونه من ذاتهم شيئا ، و لا يخلفون بعد اختفائهم شيئا يسعدنا ، هي فقط علامات في النفس تبقى ، و بعض ذكريات عصية على النسيان .
في هذا الدرب نتوه ، نقطع المسافات دون أرتياح حقيقي ، و دون أن يكون لنا زاوية تخصنا حقا ، فلا أرض لنا في هذا الطريق ، و لا مكان يُميزنا ، إنه درب الأرواح الضالة في ليل الحزن و عتمة الروح !
الضحكات هنا لها صدى و كأنها صراخ ، لكنها جوفاء لا تُدغدغ القلب و لا تَخرج منه ، الابتسامة قناع يخفي مخاوف كثيره ، نستر بها شكوك تحوم في أعماقنا كسرب من النحل يزعجنا ، و وحدنا من يسمع طنينه .
العطور هنا تتداخل رائحتها للحد الذي تفقد به هويتها ، فتضيع قدرتنا على التمييز ، نتخبط بين رقة الياسمين و قوة خشب الصندل ، لكن لا رائحة حلوة تبعث على الحياة ، أو تجدد الأمل أو تريح النفس ، و مع هذا نتنفس ، نستنشق الهواء ، و حين نفعل تعبر مخيلتنا غابات محترقة … زهور محتضرة .. براعم تذبل .. و بتلات تذوي في أصيصها عطشاً !
في هذا الدرب قد تبدو لنا اللحظة المعاشة جميلة ، لكن جماليتها كالقرص الفوار ، بعد هدوء حركته ، و توقف رقصته ، يتلاشى كل شئ حتى القرص ذاته يختفي ، و لا يبقى سوى ” شيئا ما ” يغير طعم الماء المحايد و يعكر شفافية لونه .
في البدء .. كان الزمن سريعاً حين أتينا و في درب العودة بات طويلاً ، حتى خطواتنا لم تعد هي ، بات بها تخاذل و شئ ثقيل ، الضوء الذي كان يشع من وجوهنا قبل الذهاب غاب ، و النوافذ التي عدنا نقف بها ضاقت ، و القمر الذي كنا نعده مرآة ضوء ، بتنا نرى الخطوط الرماديه التي تعلو وجهه أكثر مما نراه !
كنا نُشبه الطرق التي نعيش بها ، و تُهنا في طرق لا تشبهنا ، و حين عدنا .. لم نجد انفسنا في طرقنا و لم نعد بعد ذلك المشوار .. نحن !
تنويه :
+ الصورة المصاحبة بريشة الفنان ( محمد حجي ) ، قمت بمسحها ضوئيا من مجلة ( صباح الخير ) عدد ٧٧٣ ، الصادر يوم الخميس ٢٩ اكتوبر ١٩٧٠ ميلاديه .










The heart has its reasons of which reason knows nothing.
Blaise Pascal
ريم.. said this on جوان 8, 2015 في 3:14 ص |
يالهذا القلب المتقلب .. ثبته الله على الخير !
يزيد said this on جوان 12, 2015 في 4:08 ص |