شكرا بعمق حبي لها
منذ مراهقة مضطربه و طفولة يسكنها الفضول أحببت غادة السمان !
مُنعت كتبها لفترة في بلادي ، و المفارقة المضحكة أن سطورها كانت تدخل كورقة أخيرة في مجلة ” الحوادث ” اللبنانية ، تحلق في ” لحظة حريه ” و تحملني معها إلى سمائها .
وضعت نصب عيني أن أجمع كافة كتبها و فعلت ، أول كتاب ابتعته لها – قبل هذا القرار و قبل المعرفة بها أو وعي ما تكتب – كان كتاب ” ختم الذاكرة بالشمع الأحمر ” أشتريته في طفولة مبكرة – لكون الغلاف جذبني فحسب -من مكتبة صغيرة في شارع الثلاثين بمدينة الرياض !
بعد وقت باتت كتبها تنام على رف مستقل لدي ، مُضاف له طبعات قديمة أولى من بعض أصدارتها – قبل أن يكون لها دار نشر – إضافة لكتب أخرى تتحدث عنها و عن أدبها، جعلت من ” طائر البوم ” الذي تحب رفيقا لها بالمكان، مع مصباحين أتو لي كهدية ، لهما تفاصيل شرقية ، و في الأعلى عُلقت لوحة للرسام خوايا ياسمين بعنوان ” العاشقان ” .
هذه المجموعة ساهم في مساعدتي بتكوينها انسانة عزيزة من مصر ، طلبت منها العون و لم تتردد ، كتبت لها العناوين الناقصة فأتت بما وجدته ، كتب اخرى أتت كهدية من أخي أو كانت من مكتبة أبي ، و اكثرية اخرى اقتنيتها أو وجدت طريقها إلى عبر التسوق المباشر اثناء السفر أو من خلال الأثير .
في يوم أذكره جيدا ، مضيت لشراء المجلة كعادتي – الحوادث – فعلمت بأنها لم تعد تصدر ، تأثرت ، و مع الوقت بت اقرأ الأعداد القديمة حين يدعوني الحنين ، اطالع بعض الصفحات في كتبها المتنوعة الموضوعات ، بين نثر يقارب الشعر ، و مقالات مختلفة المواضيع ، و أدب رحلات ، و روايات و قصص قصيره ، و لقاءات تمت معها لا أمل قرأتها.
أحببت من التجارب الأبداعية التي فعلت – و لم تكررها – كتاب ” مواطنة متلبسة بالقراءة ” ، اهدته لأبنها حازم بمناسبة تعلمه الأبجديه في سنواته الأولى ، فكرة الكتاب – الذي تمنيت ذات يوم بأن أصدر مثله – استثنائيه ، لكونها تعيد تلخيص كتب شهيرة و تجارب ادباء و اسماء شهيره في سطور ادبية موجزة ، بأسلوب شيق ، بين ثناياه تجد ” غادة ” ، بنبرة قلمها ، و تجربتها ، و رأيها الخاص – و هذا ممتع حقا – شخصيا أعد هذا العمل أدب رحلات (!) لكن من نوع آخر ، لكونه خلاصة قارئه / أديبه ، و أم تروي لفلذة كبدها سفرها مع الورق ، تسرد رحلتها عبر الرفوف و مع الكتب ، تروى حكايات عن من كتبها و من سكن فيها .
البارحة و بعد عدة سنوات من تعطشي لقراءة سطورها بشكل دوري انتظره ، حدثتني روح محبة ، لطيفة ، ملمة بالكثير دونما صخب أو ادعاء أو أستعراض – و عبر اتصال هاتفي – عن مقال قد أثر بها ، يحكي عن الأحداث الراهنة ، اخبرتني بأنها ذكرتني حين قرأته ، و من ضمن ما حكته أن كاتبة المقال هي ” غاده السمان ” !
أخبرتها بأن هناك كاتبة تحمل ذات الأسم لكن مع اختلاف كلي في التناول أو الأسلوب ، لكنها أكدت لي بأنها غادة التي أحب ، و ذكرت لي أسم الصحيفة التي تنشر لها ، لم تدرك بأنها في هذا الحديث طمأنت قلبي و عقلي الذي طالما تسأل عما تفعله اديبتنا بالغياب و هل هي بخير ، و للصدق اذكر بأن المخاوف انتابتني ، فالامراض لم تترك احدا ، و قد حزنت ذات مساء لحد الصمت ، حين تخيلت بأن الزهايمر ربما زار رأس تفنن في الأختزان كقطعة أسفنجية ، تمتص ثم تنسج الجُمل بالكلمات ، تعيد رصد الأشياء للقارئ ليصبح و كأنه يراها ، تتقن حفر الشعور داخل نفسه ليستشعره كوشم ، أحزنني بأن ملكة الانسان و الموهبة التي اعطاه الله قد تفقد في لحظة ، صدقا اخافني هذا الاحساس و ازعجني ، لكن اليوم ابتسمت مطمئنا و مندهشا ، فكيف لورقة بسيطه أو مقال معدود السطور أن يُنزل في روح قلقة يملؤها التساؤل ” سكينة ما ” و يطمئنها عمن تحب !
سعدت جدا حين قرأت المقال و غمرني احساس جميل ، فها هي تتذكر أدق التفاصيل و بالأسماء ، تكتب معافاة – و لله الحمد – بقلم أعرف نبرته جيدا ، تتدفق بروح شابة لا تشيخ ، تروي برهافة احساس كقلب صغير مرهف عرف المشاعر للتو ، قربتني من حياتها الخاصة و ذكرياتها و هي تتحدث عن موضوع آني و عن احداث اليمن ، و هنا يكمن أحد اسرار صنعتها حيث تربط الخاص بالعام و تفعل العكس ايضا ، تحدثت عن صديقتها الفنانة مي نصر – و هنا عرفتها للمرة الأولى – كتبت و كتبت و كنت ألتهم السطور واحدا بعد الآخر ، كانت تتشعب لكن تظل الخطوط مترابطة بلا تشتت ، تمسكها بأحكام فارسة تمتطي فرس الأبجديه و في يدها اللجام ، عبرت بأسلوبها البسيط العميق الأنساني عن الكثير و في سرد ممتع قصير .
الآن أترككم مع المقال كما نشر هنا – لكون الصحيفة التي تكتب بها “ القدس العربي ” قد تكون محجوبة في بعض الأماكن – مع عميق الشكر لغادة التي لا تشيخ ، و للروح التي أخبرتني .. شكر عميق يوازي حبي لها !
” كتبنا و ما كتبنا و ياخسارة ما كتبنا ! “
لم أكن بحاجة إلى رسالة من مي نصر لتستيقظ أحزاني على (أوطاني). ومي نصر مطربة استثنائية اشتهرت بجمال الصوت إلى جانب قدرتها على تلحين بعض أغانيها، مطربة لبنانية فرضت نفسها دون ان تشهر «اسلحة الدمار الشامل» الحريمية لتتلوى نصف عارية على الشاشات. مي مطربة بلا ماكينة إعلامية وواحدة من اللواتي يُعدن إلى اسم «فنانة» معناه الراقي، تعمل في الحقل الخيري وريع حفلاتها في العالم كله يذهب إلى الأعمال الإنسانية العربية.
بلادنا: اليمن الحبيب
من اليمن حيث تعمل مي نصر وتقيم كتبت لي تقول حرفيا: «حالت بيني وبينك أحزان ومآسي هذه الدنيا التي لم أتوقع في يوم من الأيام ان تطال بلادنا اليمن الحبيب. اليمن اليوم كفلسطين والعراق وسوريا «مجروح» يحتل من قلبي الحزين مساحته… أكتب هذه الكلمات مع أصدق دعواتي».
كلمات مي عن اليمن وقولها «بلادنا اليمن الحبيب» أعادتني إلى اليمن، البلد الذي أحببت.
كانت لدى زوجي رحلة عمل إلى عدن نطير بعدها إلى أوروبا لقضاء شهر العسل.
بدأت متعة الرحلة في مطار عدن البسيط (يومئذ) ولكن تفوح منه روائح عطور أزهار نصف استوائية. إنه المطار الوحيد في العالم الذي شممت فيه رائحة الأزهار و«الكادي». وبدلا من غرفة في فندق «كريسنت» اقتادنا الأصدقاء اليمنيون إلى شقة مفروشة في «ألفنت بوينت» حيث شبه جزيرة صغيرة ممتدة كلسان في البحر وهزني انهم زينوها بالبالونات الملونة إكراما لشهر عسلنا، ووجدت تلك البالونات أجمل من زينة لندن في الميلاد، فهي منفوخة بأنفاس المحبة والسخاء بالروح واللطف وهزتني منذ اللحظة الأولى رهافة الشعب اليمني. وتعارفت مع استاذتين إحداهما ترتدي «الدرع» ـ الحجاب اليمني ـ ورافقتاني في رحلات يومية للتعارف مع اليمن.
في عدن طفت في أحياء التواهي وخور مكسر وحي السعادة وكريتر والضالع وشارع الزعفران.
التهمت «المقرمش» بدلا من «البوب كورن» جالسة أمام «الدرزان» التلفزيون. وصاح الأولاد: «ياسين علينا» حيث ارتديت ثوبا مكشوفا! وزرت «متحف كريتر» وكان أمام بابه مدفع أثري نائم وفوقه نام الحارس أيضا بعدما قام بـ«تخزين» القات.. وندمت لأنني لم أشاركه مضغ «القات» وأنا التي جربت لمرة واحدة مخدر «إل. إس. دي» لكي اكتب عن تجربتي وفعلت في أحد كتبي.
ولن أنسى وقفتي على شرفة منارة عدن التي تطل على ثلاثة بحار وعلى قارتين: آسيا وأفريقيا.
وتابعت جولتي في اليمن إلى أبين ـ يافع ـ تعز ـ قرية المخزن وحزنها الصخري وتخوم زنجبار، قرية الحصن، حصن غضنفر، جعار، مأرب، لحج، حضرموت، وسواها كثير. وضحكت بحب وأنا أرى رجلا يزين سيارته تماما كما كان يزين ناقته.
ورسالة مي نصر أعادت لي تلك الذكريات حية نضرة.
صنعاء، العراقة والسحر
زرت صنعاء عاصمة «اليمن السعيد» ويا لها من مدينة معلقة بين القمر والدمعة وبهرتني أصالتها المعمارية وزخارفها الفريدة وفي أزقتها هبت عليّ روائح التوابل والبهارات، فثملت وزادني اللقاء مع أهلها غراما باليمن.
كما زرت المدينة الفريدة «الطويلة» وليلة رحيلي من عدن ذهبت مع الصديقات إلى ملعب كريتر وجلسنا في الهواء الطلق في ضوء القمر، حيث أقيم حفل غنائي راقص فولكلوري.. وأغرمت برقصة «اللوعة» ولقبتها بالدبكة اليمنية، ثم ذهبنا لشرب القهوة في مقهى «عروس البحر الأحمر». وكان الشبان (بالتنانير) المحلية والخناجر في خصورهم، وتأملنا مشهدا غراميا بين البحر والقمر.
كانت ذكرى فصارت جرحا
واليوم، أشاهد على شاشة التلفزيون ما يصيب تلك الأماكن اللامنسية الحبيبة من دمــــار والنار تشـــتعل فيها وأشتعل غضبا على الذين صمموا على العودة بنا إلى زمن «الفتـــنة الكبرى» بعدما لجمت «العروبة» نابشي القبور ومضرمي الحرائق.
وفي قلب كل قارئ عربي ذاكرة حب لعدة مدن وقرى عربية يدميه ان تهان. ولن أنبش المزيد من أحزاني/ السورية/ العراقية/ الليبية/ اللبنانية/ الفلسطينية إلى آخر قاموس الأحزان وكل جرح يوقظ الآخر.. وداخل رأسي تحلق غربان عدن الجميلة وبومها اللطيف. وعند تلك الشواطئ التي تتلقى اليوم القصف حلق حولي فيها سرب من الطيور البيض، فنبتت لي أجنحة وحلقت معها. وبوسعي كتابة سطور مشابهة عن مدن وقرى سورية وعربية لامنسية، بهية، انكسرت قلوبنا للدمار الذي حلق بها.
المسؤول هو الحاكم لا الكاتب
وصلتني رسائل عديدة من القراء عاتبة على المفكرين العرب والأدباء لأنهم لم يواكبوا المعركة.
يا عزيزي القارئ.. المفكر العربي لم يقصر يوما (كما الصحافي والأديب) في حقل إطلاق صفارات الإنذار.
وسبق له التحذير منذ عقود مما نحن فيها اليوم..
واللوم يجب ان ينصب على بعض الحكام العرب الذين لا يطالعون ما يقوله المفكرون ويكتفون بشهادة بطانة من المتزلفين يحيطون بهم كالذباب حول قطعة حلوى ويخفون عنهم الحقائق، وإذا تصادف ان سمع بعض الحكام صوتا معارضا سجنه بدلا من الانصات له!
لطالما حذّر المفكر العربي والصحافي والأديب، من بحر الظلمات الذي تبحر فيه بلداننا العربية اليوم.. ولم ينصت أحد لهم. و«كتبنا وما كتبنا ويا خسارة ما كتبنا» كما تغني الكبيرة فيروز..
وفي القلب غصة جارحة إذا كان صاحبها مثلي تمنى ان تكن ساحة الحروب العربية كلها في فلسطين المحتلة لتحريرها بدلا من هذه الأوبئة الجوالة، ولم يعد اسم فلسطين يأتي على ألسن البعض إلا من باب رفع العتب!
كَتَبنا وما كتبنا ويا خسارة ما كتبنا!
٥ يونيو ٢٠١٥ ميلاديه . غادة السمان .