فنجان الحنين

جَلستْ في مقهى الفندق الذي نسيه رواده، كان شاهدا على طبقة اجتماعية عاشت و لمعت ثم انطفت، كالنجوم المتوهجة التي توارت مع دخول الغيوم الجديدة.

اتّخذت مقعدها الجانبي في المقدمة، ألِفَت هذه الزاوية التي تتيح لها مشاهدة ردهة “اللوبي” الواسعة، و كأنها بومة تختبئ في جذع شجرة عتيقة لا يلحظ وجودها أحدٌ، و لكنها ترقب الجميع!

في ممرات هذا المبنى الرخامي كانت تسير مع صديقاتها اللاتي أصبحنَ بعيدا عنها اليوم و كأنهنّ لم يكنّ !، تذكرّت أصوات أحذيتهن حين كنّ يتنافسن في بدايات المراهقة على إقناع أولياء أمورهن بشراء حذاء كعبه “أعلى” في ذلك العمر الصغير، و قد كانت جميعها أحذية صبايا لم يعد لها وجود اليوم، شبه مرتفعة و بسيطة، تتذكّر عناد والدتها و رفضها أن ترتديه، مكتفية بالأحذية المصنوعة من جلد ثمين، و التي كان سعر أحدها يشتري أحذيتهن جميعا، لكنه يظلّ في عينيها بلا قيمة ؛كونه لا يصدر صوتاً يسعدها و لا يجعلها مثلهن!

في قاعة الأفراح كان زواج خالتها، ثم عمتها الصغيرة، و من يقام عرسه هنا في ذلك الوقت يُعد من الوجهاء، و قد كان أهلها كذلك، حيث تصطف السيارات الفاخرة عند البوابة الكبيرة قبيل خروجهن قبل آذان الفجر، بثياب فُصّلت خصيصا لهن، أو تحمل أسماء ماركات عالمية و مجوهرات خيالية، تختفي كلها تحت العباءات السوداء، يسرن بهدوء على أصداء الدفوف من بُعد، كل امرأة مع صغيراتها أو أخواتها، يتوارين داخل المركبات التي زيّنت نوافذ بعضها بستائر من المخمل أو الدانتيل.

تذكّر الحلاق اللبناني في الممر الجانبي الذي يعرف إخوتها الشباب، يقصّ لهم أحدث الصيحات التي وصلت اليه، يزيّن مدخله بصورة لجون ترافولتا و اخرى للمطرب اللبناني وليد توفيق، بجواره محل يستأجره والد صديقتها ليبيع القطع المميزة و الأنتيكات، و أيضاً لوحات لفنانين من العالم العربي، و لوحات ترسمها زوجة أحد المسؤولين الأجنبية التي تحدّث عنها الناس لفترة طويلة، ترقب الواجهات الزجاجية للمحلات الفارغة التي أُغلقت أبوابها و كأنّها لم تكن مكتظة يوما ما !

حمام السباحة الخارجي و الشاليهات المطلة عليه، الأرضيات الإيطالية التي قُصت على شكل ورود كبيرة تُزين الدرب بشكل جمالي أَخَّاذ،الأحجار الصخرية و النباتات الصحراوية، و الإضاءات الصفراء الخافتة، و تفاصيل عديدة تُعد شاهد معماري على فترة السبعينات و الثمانينات الميلادية، التي تشعر أن أغلب رصيد سعادتها كان بها!

ترقب الفندق اليوم، و تشعر بأنه يشبهها، يحاول أن يواكب و يتجدد لكن مع ذلك يظل به “شئ ما” غير قادر على فعل ذلك و إن فعل !!

هنا أحبت بصمت، و فارقت بصمت، شاب لم يسمع صوتها، كان مشتركا في نادي الفندق، يتردد على المقهى ليتناول وجبة خفيفة أو مشروب ما، تتأمله دون أن يلاحظها، و تُسقط كل أغاني الحب التي تسمعها عليه، و استمرت بفعل ذلك حتى بعد اختفائه، و أصبحت تنجذب الى كل وجه يشبه وجهه، و ترتاح لكل روح بها من روحه حتى اليوم، و مع مرور العمر و تعدد المشاهدات، أدركت أنه قد يبدو عادياً، لكنها أحبته، و أحبّت احترامه لذاته و عدم تجاوزه عليها، دمائه الشابة، حماسته، و اختلافه عن صبية ذلك الوقت، كان منسجماً مع ذاته، و له حياته، يحب القراءة، يدفن وجهه في الصحف اليومية، أو كتبه، أو قائمة الطعام لذا لم يكن يراها، له ضحكة طفل تخرج من القلب و لها رنين، يمازح العاملين و يكتب أحيانا، و في لحظات شروده تدور عيناه وترى كل شئ دون أن تراها!

تمد يدها لفنجان قهوتها الذي برد قليلا و تبتسم ، مجرد تذكرها له الآن اشعرها بأنها صبية و بأنها كانت “غلبانة” بشكل أو بآخر!

فاتها قطار الزواج رغم الفرص الجيدة، و تغيرت ظروف حياتهم، مات أبوها، و مرضت والدتها، و نهب بعض إخوتها نصيبهم في الإرث، و تفككت الأسرة، و غدوا قصة في أفواه الناس يتسلون بها، لذا جنحت للهروب إلى الطرقات داخل السيارة، يأخذها السائق في جوله إلى الأماكن التي أحبت و ما زالت تُحب و كانت سعيدة بها، منزل صديقة طفولة كانت أقرب لها من روحها و اختفت، أسوار مدرستها القديمة، و شارع المعلمة التي علمتها الإنجليزية، الأسواق الشعبية التي مضت إليها مع والدتها التي كانت تكاسر الباعة في الأسعار، و تختال بصمتها و ذكائها و يقينها بأنها جميلة و محبوبة لدى زوجها، تركب في المرتبة الخلفية و تستمع لأغاني نساها الناس، لكنها تمنحها حياة اخرى تحبها و تحيطها براحة عجيبة، و كأنها مُسكن أو مخدر ما، ترقب من خلف الزجاج المدينة التي تغيرت، و المباني التي علت، و الأضواء التي زادت، و الشارع الرمادي الذي ازدحم، بوجه ساكن، كوجه متعاطي مُنفصل عما حوله و يسعده ذلك !!

يخرجها من أفكارها رجل ملأ الشيب وجهه، و ظهر له كرش صغير، ترى به بعض ملامح الشاب الذي كانت تعرف و لم يعرفها يوما ما، تلقائيا و بهدوء تسحب طرحة العباءة و تغطي نصف وجهها الأسفل، و تشعر ببدانتها بشكل مباغت، يعبر أمامها فتغض بصرها أرضا إلى أن يختفي، كل ما تذكره كان معه “ناس” أصدقائه؟ أسرته؟ لم تركز فعيناها لم ترى سواه!

تأخذ رشفة أخرى من الفنجان، و تترك مبلغاً مع إكرامية ، تنتظر لبعض الوقت حتى تتأكد من ذهابه ثم تتصل بسائقها كي يُقرب السيارة، تبتسم و هي تختار كطفلة الأغنية التي سوف تسمعها حين يأخذها الطريق !

~ بواسطة يزيد في أكتوبر 11, 2025.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.